محمد أبوالفضل يكتب:
البشر قبل الحجر في مصر
تعددت مبادرات زيادة الوعي الديني والأسري والصحي والتعليمي في مصر، وتنوعت الطرق التي سنّتها الحكومة ومؤسسات رسمية للوصول إلى نتيجة مُرضية تساعدها على تجاوز المشكلات في القطاعات المعنية بها كل مبادرة، وقد تكون بعض الجهات حققت ما تريده أو تطمئن إليه غير أن الحصيلة لا تزال أقل من المطلوب.
انزعج مصريون مؤخرا وهم يشاهدون صورا جرى تداولها بشأن آثار تخريب متعمّد على المشروع المعروف بـ”ممشى مصر” الذي يقع على نهر النيل في القاهرة وافتتح قبل أيام ويمثل صورة حضارية لما يتم من تطوير في أماكن متعددة.
جاء انزعاج السلطة والنخبة من سلوك المخرّبين الذين لم يعبأوا بما أنفق في المشروع ولا الشكل المطلوب، وحاول آخرون التقليل من أهميته كواجهة سياحية ومتنفس للمواطنين على نهر النيل الذي لا يزال خلاّبا في القاهرة، ما دلّ على عدم الوعي بالأهمية التي يحملها ممشى مبهر يشير إلى رمزية أن النيل مصدر الحياة في مصر.
ربما يكون هذا الموقف بسيطا ويمكن أن يحدث في أي بلد آخر، لكن الخوف الكبير يأتي مما يحمله من دلالات تتجاوز حدود الممشى، فهناك العديد من المشروعات التنموية التي جرى تشييدها في مصر وأنفقت عليها أموال طائلة قد تتعرض لمصير مشابه ما لم يكن الوعي كافيا لدى المتعاملين معها والعاملين فيها والمسؤولين عنها.
الحكومة المصرية قطعت شوطا كبيرا في بناء الحجر ولم تحدث توازنا بين ذلك والبشر، وكل مبادراتها التوعوية تبدو قاصرة
تطرح هذه المسألة إشكاليتي الحجر والبشر المتداولة في مصر، وأيهما لها الأولوية لدى الحكومة، وهل يمكن أن تسيرا معا لتحقيق المعادلة الصعبة ويصبح الوعي وما ينطوي عليه من أهمية وسيلة تمنع حدوث خلل في أحدهما يؤثر على الآخر؟
يشعر المصريون أن حكومتهم تولي اهتماما فائقا بالحجر، فقد أنشأت طرقا وجسورا ومدنا سكنية عديدة وبدأت تشييد عاصمة إدارية جديدة وأعادت إصلاح البنية الأساسية في غالبية المرافق والخدمات، ولم تهتم بالتوازي بتطوير الوعي الكافي عند البشر الذين يعبرون الطرق والجسور ويسكنون المدن ويستفيدون من المرافق والخدمات.
والأهم أن المبادرات التي أطلقت لمكافحة الفساد لم تجد نفعا حتى الآن، أو على الأقل لم تتمكن من القضاء عليه والحد من تفاقمه، فلا يزال ينخر في بعض المؤسسات ويعوق التقدم المطلوب الذي يجب أن يتناسب مع التطور الحاصل في العمران، لأن وعي البشر بما يتم القيام به من مشروعات هو الكفيل بالمحافظة عليه وعدم تخريبه.
أحدثت الحكومة المصرية ما يمكن وصفه بـ”المعجزات” في بناء الحجر، إلا أنها عاجزة عن تحقيق اختراق مماثل في بناء البشر، وكل المبادرات التي تطلقها وتتعلق بالوعي وأدبياته ليست مجدية لإحداث التغيير المطلوب في أنماط تفكير البشر.
يأتي الخوف من استمرار الخلل في التوازن بينهما، والذي يكفي لهدم الكثير من الجدران التي شيّدت، فغياب الوعي بما تم إنجازه وزيادة الشعور باللامبالاة والقصور في مواجهة الفساد داخل الجهاز الإداري وشيوع البيروقراطية، كلها عوامل تثبت أن معركة الوعي طويلة وتلزمها رؤية ثاقبة من الحكومة كي لا تفاجأ بأن ما شيّدته في الحجر يسهل هدمه من خلال البشر.
لا يقتصر الوعي على مجال بعينه، فإطلاق المبادرات الفردية المتعلقة بمجال معين، في الصحة والأسرة والتعليم والدين وغيرها، لن يؤدي إلى نتائج إيجابية ما لم يكن هناك مشروع متكامل لخوض معركة الوعي على أصولها وبالصورة التي تدفع الناس إلى تغيير ثقافتها وسلوكها وموقفها من الدولة كمظلة تعمل لصالح جميع المصريين.
يؤدي تقسيم زيادة الوعي إلى مجالات مختلفة حسب الحاجة التي تريد الحكومة تسليط الضوء عليها في وقت ما، إلى الحصيلة السلبية الراهنة، فمنذ سنوات يتم الحديث عن الشكل الحضاري المطلوب بلا فعالية تمكن المسؤولين من جني الثمار المرجوة، حيث ينصب التركيز على القشور دون أن يصل إلى الجذور، فتحولت معركة الوعي إلى شيء أشبه بكرنفالات تخطف الأنظار وتتلاشى آثارها بمجرد انفضاضها.
المصريون يشعرون أن حكومتهم تولي اهتماما فائقا بالحجر، فقد أنشأت طرقا وجسورا ومدنا سكنية عديدة وبدأت تشييد عاصمة إدارية، ولم تهتم بالتوازي بتطوير الوعي الكافي عند البشر
يتطلب وعي البشر تبني مجموعة مهمة من الخطوات العملية التي تقنع الناس بالأهمية الحيوية لما تقوم به الحكومة من تحركات ترمي إلى زيادة المشروعات التنموية التي تصب في صالح المواطنين، ويقود التخلف عنها إلى خسارة واحدة من المعارك المصيرية اللازمة للحفاظ على الدور الحضاري للدولة المصرية.
يمكن وضع أربعة محددات رئيسية تسهم في نجاح مبادرات الوعي ووصولها إلى قلب وعقل المواطنين والاستجابة لمتطلباتها الحضارية دونها لن يكترث هؤلاء بما يتم تحقيقه من منجزات تتعلق بتطوير الحجر.
الأول: تطبيق القانون على الجميع، بقطع النظر عن المكانة الوظيفية والاجتماعية لمن يخترقه، فشعور الناس أن سيف القانون يسلط على رقاب أشخاص ويهمل آخرين يؤدي إلى إفشال أي مبادرة للوعي تحض على أن الجميع أمام القانون سواء، كما أن قدرة البعض على الهروب من المحاسبة تفقد معركة الوعي إحدى أهم أدواتها المتمثلة في تحقيق المساواة والعدل.
الثاني: محاربة الفساد، فلن تجدي محاولات نشر الوعي طالما أن هناك بشرا يفسدون ولا ينالون العقاب، وكل المشروعات العملاقة التي يتم إنشاؤها في ربوع البلاد يمكن أن تتحطم على هذه الصخرة، فالذمم الخربة لا تهمّها منجزات حضارية ولا يعنيها حجم التطور الذي تشهده الدولة، حيث ينصب دورها على استنزاف مواردها، وهؤلاء قادرون على وأد المشروعات عقب افتتاحها مباشرة.
الثالث: توفير جرعات كبيرة من الثقافة الشاملة، فالوعي في جزء كبير منه معركة لها علاقة بالفن والموسيقى والترجمات وغيرها من المجالات التي تنير الطريق للبشر وتعرفهم الأهمية التي يحملها الحجر، وهي متلازمة تحتاج إلى بذل جهود كبيرة، لأنها بحاجة إلى محو آثار الجهل وما ترسب في العقول واستبداله بما هو أجدى لها.
الرابع: توفير الحريات اللازمة للإعلام، فلا يستقيم الوعي مع الكبت، ولا يمكن محاربة الفساد والجهل وسيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة دون أن تتوافر الأجواء اللازمة لتمارس وسائل الإعلام حرّيتها بدرجة كافية، فهي الرافعة التي يستند عليها الوعي في معركته الطويلة، حيث يعلم من تسوّل له نفسه تعمد التخريب أن هناك من يرصدون حركاته وسكناته ومن يحاسبون على ارتكاب التجاوزات.
قطعت الحكومة المصرية شوطا كبيرا في بناء الحجر ولم تحدث توازنا بين ذلك والبشر، وكل مبادراتها التوعوية تبدو قاصرة، ومن هنا عليها أن تسرع في معالجة الخلل قبل أن يفضي تماديه إلى خسارة منجزها العمراني وتسعى من خلال المواءمة بين معركة البناء ومعركة الوعي للحفاظ على ما حققته من تطورات حضارية.