د. ابراهيم ابراش يكتب:
حركة حماس والمكابرة على الخطأ
منذ 2004 ونحن نكتب ونتحدث في وسائل الإعلام محذرين من مخطط دولة غزة الذي تفتقت عنه العقلية الاستراتيجية الصهيونية لقطع الطريق على إمكانية قيام دولة في غزة والضفة ولدفع الفلسطينيين للاقتتال الداخلي والصراع على السلطة بين الوطنيين والإسلاميين وينشغلوا بالانقسام وحوارات المصالحة العبثية وإبعاد الأنظار عن ما يجري في الضفة والقدس من مشاريع استيطانيه وتهويدية.
إسرائيل وظفت لتنفيذ هذا المخطط قيادات فلسطينية ومنها قيادات حمساوية، بوعي منها أو بدون وعي، ولو لم يخرج جيش الاحتلال من داخل القطاع عام 2005 تنفيذاً لمخطط استراتيجي ما كانت حركة حماس تستطيع السيطرة على القطاع عام 2007، وتم تكليف دولة قطر لتكون العراب أو الوسيط الخفي بين حماس وإسرائيل لتكييف وترتيب الأوضاع في قطاع غزة لتكريس الانقسام وقيام دولة غزة، وهي مهمة بدأها رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق حمد بن جاسم ويشرف عليها اليوم السفير العمادي بتفاهمات وتنسيق مع دول أخرى.
بعد خمسة عشر سنة من سيطرة حماس على قطاع غزة وكل ما جرى للقضية الوطنية ولقطاع غزة نتساءل: ماذا جنى الفلسطينيون من سيطرة حماس على قطاع غزة؟ وما هو مستقبل أو أفق استمرارها في السيطرة على القطاع؟
بعيدًا عن الشعارات والأيديولوجيات وحديث المقاومة والصمود ومهرجانات وبهرجات الانتصارات التي لا تنتهي ومع كامل تقديرنا واحترامنا لكل الشهداء والأسرى والجرحى، يمكن القول بأنه منذ سيطرة حماس على قطاع غزة والقضية الفلسطينية تسير من سيء إلى أسوأ وقطاع غزة يعاني على كافة المستويات والزعم بأن غزة محررة يناقضه الواقع.
منذ سيطرة حماس على غزة تعزَز وتَكرَس الانقسام والتباعُد الجغرافي والنفسي والمجتمعي بين أهلنا في غزة وأهلنا في الضفة حتى أصبحنا أمام مجتمعين منفصلين، كما وظفت إسرائيل سيطرة حماس على القطاع لحصار أهله وتجويعهم وإفقارهم وتحويلهم لمتسولين داخليين أو من جهات خارجية لا تدفع إلا بثمن تأخذه من كرامة المواطنين وحقوقهم الوطنية، ومع سيطرة حماس زاد تدخل أصحاب الأجندة والمشاريع العربية والإقليمية، ومع سيطرة حماس أصبح القطاع طارداً لكفاءاته، ومع ظهور حركة حماس وسيطرتها على القطاع وظف الكيان الصهيوني الخطاب الديني لحماس ليؤكد على الطابع الديني للصراع وأن إسرائيل تواجه عالم إسلامي متشدد وجماعات دينية إرهابية مستشهدة بما تفعله تنظيمات القاعدة وداعش، كما وظفت إسرائيل علاقة حماس والجهاد الإسلامي بإيران وما يسمى "محور المقاومة" لتحريض أميركا والغرب على الشعب الفلسطيني..
قد يقول قائل وماذا بالنسبة لإسرائيل، وماذا بالنسبة للسلطة؟ حديثنا عن حركة حماس ومسؤوليتها لا يعني تبرئة إسرائيل فهي السبب الرئيس لكل المصائب التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، ولو لم يكن هناك احتلال ما كان هذا حال قطاع غزة وما آلت إليه القضية الفلسطينية برمتها، كما ندرك أن الكيان الصهيوني لا يحتاج لذرائع ومبررات لتبرير ممارساته الإرهابية والعنصرية كما أن أميركا والغرب في غالبيته منحاز لإسرائيل حتى بدون التحريض الإسرائيلي، أيضًا لا نبرئ السلطة من المسؤولية فهي أيضاً لها أخطاؤها وقد كتبنا وتحدثنا كثيراً عن السلطة وأخطائها، وهناك في السلطة من يوظف ما آل إليه الحال في غزة في ظل سلطة المقاومة ليبرر نهج التسوية السياسية ويهونون من أخطاء السلطة وتجاوزاتها.
لكن حركة حماس ومنذ انطلاقتها عام 1987 ثم سيطرتها على قطاع غزة 2007 وهي تقول إنها كحركة مقاومة بديل عن نهج التسوية السياسية الذي تمارسه السلطة، وانها لم تأت من أجل السلطة بل جهاد في سبيل الله ولتحرير كل فلسطين، وأنها حررت بالسلاح قطاع غزة وستواصل تحرير بقية الأراضي الفلسطينية..
بعد أربعة وثلاثين عام على تأسيسها وخمس عشر سنة على سيطرتها على قطاع غزة فإن مجريات الواقع تخالف أو لا تنسجم تماماً مع الأهداف التي حددتها حركة حماس كمبرر لوجودها، سواء الأهداف المسطرة في ميثاقها الأول أو في "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" 2017.
أوقفت حركة حماس المقاومة المسلحة وحتى السلمية في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر منذ أن قررت المشاركة في الانتخابات وفي السلطة 2004، وشكلت حكومة السلطة بعد انتخابات يناير 2006، ثم سيطرت على قطاع غزة بانقلابها على السلطة، وعندما عجزت عن تدبير الأمور المعيشية في القطاع أو رفع الحصار عنه ومع تدني شعبيتها دخلت في أربعة حروب مع الاحتلال كان نتيجتها مزيداً من الخراب والدمار والفقر والجوع دون رفع الحصار أو تحرير شبر واحد من الأرض..
بعد أفول هيجان وانفعالات معركة "سيف القدس" ولمحاصرة الغضب الشعبي المتزايد بحثت حركة حماس عن مصادر مالية جديدة سواء من خلال إرهاق الشعب بالضرائب حتى وصل الأمر بها لفرض ضرائب على الواردات من الضفة الغربية وكأن الضفة دولة أجنبية، أيضا زاد ارتهانها المالي لدولة قطر وغيرها ولا بأس أن تدخل الأموال عن طريق إسرائيل ومراقبتها لآلية الإنفاق والأشخاص المستفيدين منها، ولا بأس حتى إن كانت هذه الأموال تخدم المعادلة الإسرائيلية الجديدة (الاقتصاد مقابل الأمن وتكريس الانقسام)، كما تلتزم حركة حماس بهدنة مع الاحتلال والهدنة تعني وقف المقاومة حتى وإن كان وقفا مؤقتًا، حتى مسيرة الأعلام اليهودية واقتحام الأقصى لم تحرك ساكناً عند حماس وبقية الفصائل الفلسطينية، المهم الحصول على مزيد من الدعم المالي وامتصاص غضب الشعب وتكريس سيطرتها على القطاع، وكأن هدف حركة حماس وثمن المعاناة الشعبية المترتبة عن أعمالها العسكرية هو تكريس سيطرتها على القطاع ودفع الدول للاعتراف بهذه السيطرة.
أما بالنسبة لآفاق ومستقبل قطاع غزة تحت حكم حماس ومجمل القضية الوطنية، فبالإضافة إلى التقارير الدولية التي تقول بأن قطاع غزة سيصبح قريباً غير قابل للحياة، حيث لا توجد أية فرصة لنهضة حضارية أو عمرانية أو تحسين في مستوى المعيشة في ظل الانقسام، ومع استمرار سيطرة حماس فلا فرصة أو أمل بتحرير أو استعادة ولو شبر واحد من الأرض، لا عن طريق العمل المسلح وقد رأينا نتاج أربع مواجهات بين إسرائيل وفصائل المقاومة ولا عن طريق العمل السياسي والدبلوماسي لأن حركة حماس غير معترَف بها دولياً أو كشريك في أية عملية تسوية، وهي لا تمثل إلا نفسها.
سيطرة حماس على القطاع واستمراره يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى ويخدم طبقة من حماس تعشق السلطة وترتع من منافعها، وتعتقد أنها بهذه السيطرة تؤسس لإقليم / قاعدة لدولة الخلافة الإسلامية أو لمشروع الإخوان المسلمين الذي فشل في كل مناطق العالم ويصرون على انجازه في غزة البئيسة وعلى حساب المشروع الوطني الشامل، وسيطرة حماس على غزة يخدم أجندات إقليمية تتعارض مع المشروع الوطني التحرري.
قد يسأل سائل إن كان وجود حماس في السلطة جلب كل هذه الكوارث فلماذا استمرت طوال 15 عاماً؟ ولماذا لا يثور عليها الشعب؟ الإجابة ببساطة، إن استمرار سلطة حماس لا يعود لرضا الشعب عنها ولا لأنها تملك شرعية دينية أو دستورية كما فقدت شرعية المقاومة وخصوصاً بعد مسيرة الأعلام اليهودية والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، بل لأن إسرائيل تريد استمرار سلطة حماس لأنها ضمان استمرار الانقسام الذي يشكل أهمية استراتيجية لإسرائيل ولأن حماس تحكم بقبضة حديدية ولأن اليأس والإحباط أصاب فلسطينيي القطاع، أيضاً لضعف حركة فتح وفصائل منظمة التحرير..
أيضا قد يقول قائل إنك تتجنى على حماس التي دخلت في مواجهات عديدة مع الاحتلال وقصفت مدن إسرائيلية وتختطف جنودا إسرائيليين وتنجز صفقات تبادل أسرى، والأهم من ذلك حماس لا تعترف بإسرائيل وترفض اتفاقية أوسلو وكل مشاريع التسوية السياسية!
هذه وقائع لا ننكرها، فكل فلسطيني يدعم ويؤيد مقاومة الاحتلال، والمقاومة ضرب من ضروب الحرب، ولكن الحروب بنتائجها كما أن المقاومة الناجحة تكون في سياق استراتيجية وطنية وليست ممارسة حزبية لأهداف حزبية ضيقة، كما أن خطأ حماس وفصائل المقاومة في غزة أنها حصرت المواجهات بإطلاق الصواريخ والقصف المتبادل وهو المربع الذي تتفوق فيه اسرائيل ليس على فصائل المقاومة فقط بل على كل دول الشرق الأوسط، فماذا كانت نتائج هذه المقاومة والحروب الأربعة التي خاضتها حركة حماس بإرادتها أو استدرجت لها غير الخراب والدمار لغزة وإبعاد الأنظار عن المعركة الحقيقية التي تجري في القدس والضفة حيث الخطر الحقيقي على الشعب والقضية الوطنية.
صحيح أن حالة الاشتباك مع العدو تحافظ على حيوية القضية وتستنفر المشاعر الوطنية، إلا أن العواطف وحالة الإثارة التي تسيطر على مشاعر الشعب الفلسطيني أثناء المواجهات لا يتم توظيفها بشكل صحيح وتتبخر بعد أيام من وقف المواجهات ولا يتبقى إلا الخراب والدمار ومئات الشهداء والجرحى ثم استجداء العالم لتقديم مساعدات للإعمار ولإطعام جياع غزة وهم غالبية السكان.
أما بالنسبة لعدم الاعتراف بإسرائيل، فغالبية الفلسطينيين يعارضون الاعتراف بإسرائيل، حتى الذين اعترفوا بها يفكرون بسحب هذا الاعتراف وما ترتب عليه وصاحبه من اتفاقات ونُذَّكر هنا بقرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، ولكن ماذا بعد عدم الاعتراف بإسرائيل ورفض عملية التسوية السياسية؟ حماس لا تعطينا أية إجابة، حتى حركة فتح والقيادة الفلسطينية لا تتوفر على إجابة عن سؤال: ماذا بعد سحب الاعتراف بإسرائيل والغاء اتفاقية أوسلو؟
والآن وبعد أن توقف الحديث عن المصالحة حتى المبادرة الجزائرية للمصالحة وئدت قبل أن تبدأ واستقر الأمر لحماس في غزة، وبعد أن نجحت حركة حماس في ضرب وحدانية التمثيل الفلسطيني وإضعاف منظمة التحرير دون أن تنجح في أن تكون بديلاً عن المنظمة في تمثيل الشعب الفلسطيني، ما هو مستقبل القضية الفلسطينية؟ وهل ستعترف حركة حماس بخطيئتها أم ستستمر بالمكابرة؟
مع مسيرات الأعلام اليهودية هددت حركة حماس على لسان كل قادتها بأنها لن تسمح للمسيرة أن تمر ولن تسمح للمستوطنين باقتحام الأقصى والصلاة فيه وقالت بأن حدوث ذلك بمثابة إعلان حرب وأن رد حماس وفصائل المقاومة سيكون مزلزلا وغير مسبوق وأن محور المقاومة كله سيقف إلى جانب المقاومة الخ، فجأة صمتت حماس ومناصروها من الأحزاب ومرت المسيرة كما هو مخطط لها وشاهد العالم المستوطنين وعلى رأسهم الحاخام المتطرف يهودا غليك وعضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير يقتحمون المسجد الأقصى والمستوطنون يرقصون في باحات المسجد ويؤدون الطقوس الدينية اليهودية، وفجأة أصبحت حماس عقلانية وبررت عدم ردها بأنها لا تريد منح الإسرائيليين فرصة حرب تبعد الأنظار عما يجري في القدس وأنها سترد في الوقت المناسب والزمان المناسب... ولكن ماذا بالنسبة للحروب الأربعة السابقة، هل ستسمر حماس بالمكابرة والزعم بأنها كانت انتصارات حاسمة للمقاومة أم ستعترف للشعب بأنها أخطأت الحسابات سواء في الحروب الأربعة أو في سيطرتها على قطاع غزة كما اعترف بذلك السيد خالد مشعل؟ وما هي وظيفة المقاومة برجالها وأسلحتها في قطاع غزة غير حماية سلطة حماس ورجالاتها ومصالحها؟