علي الصراف يكتب:
"قطر غيت".. حساب الحقل الذي فضح البيدر
القدرة على شراء مسؤولين غربيين، ليست مشكلة. الكل هنا في دول الديمقراطيات الغربية معروض للبيع، مثله مثل أي سلعة. والسوق عريض، ولا أحد أكثر علما من الدول الخليجية بحجم هذا السوق. إنه لا يقتصر على مسؤولين ثانويين، أو “مجموعات ضغط” أو “مراكز أبحاث” تبحث عن المصلحة، ولكنه يشمل مسؤولين من الصف الأول أيضا. وزراء ورؤساء وزراء ونواب ومديرو شركات وأحيانا مجرد أصدقاء، كل هؤلاء متاحون للشراء في سوق الديمقراطية الغربية. إنه سوق نخاسة على أوسع ما قد يمكن للمرء أن يفترض. قل لي مَنْ تريد؟ وسأقول لك الطريقة والثمن.
المشكلة تكمن في ما توظفهم لأجله. إذا كنت تريد حربا، فإنها بسعر. وإذا كنت تريد انقلابا، فإنه بسعر. وإذا كنت تريد أن تشيطن أحدا، فإنه بسعر. وقائمة المشتريات نفسها عريضة.
وعادة ما تكون الأعمال القذرة هي موضوع السوق الرئيسي. ولقد أثبتت قطر من قبل انكشاف الفضيحة التي أدت إلى عدة استقالات في معهد بروكينغز، ومن بعدها، أنها قادرة على توظيف الكثيرين من أجل غايات من كل الأنواع المعروضة في هذا السوق.
صحيح أن صانعي القرار الغربيين يميلون إلى طلب الرشوة حتى لأجل إنجاز كل أنماط الأعمال الأخرى، حتى ولو كانت أعمالا خيرية، إلا أن الأطر الرسمية عادة ما تتكفل بتيسير المصالح المتبادلة فيها. ولا تحتاج إلى “لوبيينغ” معقد كمثل الحاجة إلى التحريض على دول أخرى، أو اجتراح منهجيات سياسية جديدة.
"المحافظون الجدد" في الولايات المتحدة لم تنحسر تأثيراتهم. ولا هم اختفوا من أوساط “مراكز الأبحاث”، إلا أن وظائفهم اختلفت. كما اختلفت وسائل تمويلهم
لقد عملت قطر على تشويه صورة السعودية كما لم تعمل على أي شيء آخر، وذلك على امتداد أكثر من عقدين من الزمن. حتى ليمكن القول إن دبلوماسيتها وعلاقاتها في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية لم تركز على مهمة أكثر من مهمة شيطنة السعودية. وبسبب تقاربها الوثيق مع الإمارات، فقد نالت أبوظبي نصيبا وافيا من الشيطنة أيضا، رغم أن “مادة” الشيطنة لم تتوفر كما توفرت للسعودية.
منذ أن تولى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني السلطة بعد انقلابه على أبيه في العام 1995، فقد أصبح استهداف السعودية غاية لا ترقى إلى مستواها أي غايات أخرى. وعندما فاض الكيل بالمقاطعة التي اشتركت فيها السعودية والإمارات ومصر والبحرين، فقد اشتغلت “لوبيات” قطر على السعي لكسر هذه المقاطعة بتوجيه سياسات الولايات المتحدة ضد الدول التي أرادت أن تنأى بنفسها عن الضرر.
الحرب الدبلوماسية ضد السعودية سرعان ما تحولت إلى منهج عام تقف وراءه مراكز نفوذ ومؤسسات إعلام، بل وأحيطت بقناعات أيديولوجية أيضا، ومشاريع استهدفت، بوضوح، السعي لتقسيم المملكة إلى دويلات متنازعة.
“المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة تبنوا مشروعات قطر “الفكرية” لأجل تمزيق المنطقة بأسرها أيضا. وهؤلاء لم يقفوا وراء الحرب ضد العراق فقط، ولكنهم وقفوا وراء انحراف كل ما صار يُعرف باسم “الربيع العربي” ليتحول إلى حركة تمهد الطريق لجماعات الإخوان المسلمين للاستيلاء على السلطة في تونس ومصر وليبيا، وتوفير الدعم للوجه الآخر من “الإسلام السياسي” في العراق واليمن لكي يستولي بدوره على السلطة أيضا.
لقد كان الأمر مشروعا متكاملا للتخريب الشامل، بقصد “إعادة شعوب المنطقة إلى مكوناتها الأصلية”، أي إلى طوائف وأقليات عرقية متناحرة. ولم يعد يقتصر على إعادة تقسيم السعودية وحدها.
“الإسلام السياسي” احتل مكانة المركز لأنه كان هو الجهة الوحيدة التي يمكن أن تغذي هذا المشروع بإعادة “أسلمة المسلمين”، على صورة السلفيات المتطرفة، وتعمل في الوقت نفسه كحصان طروادة لجعل دول المنطقة ضحية للفشل والتدخلات الخارجية التي تهب لـ”نجدتها” مما تفعل بها جماعاتها المتناحرة.
الصورة الراهنة في ليبيا نموذج واضح لما كان يجب أن يكون عليه الحال في السعودية. ميليشيات تتنازع مع ميليشيات. وأقاليم تكتشف هويات جديدة. وثروات في الخارج تقع تحت طائلة الاحتجاز، ونفط يقع تحت سيطرة الذين يسعون، بلا نهاية، لإيجاد حل للصراع حول جنس الملائكة، أو تعريف الدين، أو فهم “الشريعة”.
وهو ما حصل في العراق، الذي لم يعد دولة بالمعنى المألوف، لأن عصابات ما تحت الدولة أقامت لنفسها كيانات تقاسمت الدولة على هيئة “حصص”.
لم تكن تنقص غايات الشيطنة إلا جريمة عشوائية مثل مقتل جمال خاشقجي، لكي تحصل على مادة جديدة، ساعة تراجعت فرص “المشروع الفكري” القطري، وساعة بدا أن محاصرة قطر قد ضيقت عليه الخناق.
قطر عملت على تشويه صورة السعودية كما لم تعمل على أي شيء آخر، وذلك على امتداد أكثر من عقدين من الزمن
“المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة لم تنحسر تأثيراتهم. ولا هم اختفوا من أوساط “مراكز الأبحاث”، إلا أن وظائفهم اختلفت. كما اختلفت وسائل تمويلهم.
الغايات أصبحت أقل عمومية، من دون أن تكون أقل جسارة. وفي الكثير من الأحيان تحولت إلى استهدافات شخصية للنيل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من دون أن تستثني الشيخ محمد بن زايد أيضا ولي عهد أبوظبي في ذلك الوقت، والعاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة والرئيس عبدالفتاح السيسي.
“قطر غيت” المتعلقة بمركز بروكينغز ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. وبمقدار ما يتعلق الأمر بشراء موقف سياسي مختلف من البيت الأبيض لإنهاء المقاطعة، فإنها لم تكن على مستوى الأهمية السياسية التي انطوى عليها “المشروع القطري”. هذا المركز مجرد حقل صغير من حقول البيدر. حتى ولو أن الفضيحة كشفت عن آليات العمل وطرائقه، ومدفوعاته. وهذه المدفوعات نفسها لم يظهر منها إلا جزء بسيط. فتقديم تمويلات للمعهد تبلغ 14 مليون دولار ليست سوى “مصروف الجيب” حيال المشاريع التجارية والصفقات الشخصية الموازية.
الكل يشتري سياسيين غربيين على أي حال. قطر ليست الزبون الوحيد في هذه السوق. وليست مشكلة أبدا أن تكون الغايات من الاتجار بهذا السوق حماية مصالح وطنية، أو التخفيف من أعباء أو التخلص من ضغوط، أو إعادة بناء صورة. هذا كله من أدوات الصراع والمنافسة السائدة. إلا أن ربطها بمشاريع دمار شامل، هو المشكلة. وتجنيد قوى محلية لخدمتها هو المشكلة. وتسليح هذه القوى لكي تخوض حروبها ضد الاستقرار هو المشكلة. وتحويل المنطقة إلى بركان متفجر بعصابات وميليشيات وأيديولوجيات وهويات متناحرة، هو المشكلة.
الأمور تبدو هادئة الآن. هذا في الظاهر على الأقل. ولكن لا العواقب توقفت. ولا ظهرت الأدلة على منحى مختلف. والذين دفعوا ثمن الشيطنة، ما انفكوا يدفعون الثمن لدهر أطول من الزمن.