علي الصراف يكتب:
عباس وسلطة الفشل التي لا تشعر بالخجل
الفلسطينيون لا يغفلون عن حقيقة أن جل مصائبهم الحياتية ناجمة عن الاحتلال. وكان من الأولى بمن يعرف هذه الحقيقة، بأن يتظاهر ضد الاحتلال حتى عندما لا يكون الطقس مناسبا. ولكنهم عندما يتظاهرون ضد سلطة الفشل التي يقودها الرئيس محمود عباس، فلأنهم يعرفون أيضا، أنها سلطة استمرار للاحتلال. بل أنها وجه آخر له.
سلطة الرئيس عباس ليست مسؤولة عن التضخم العالمي الذي أدى الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية. ولكنها إذ لم تكفل للفلسطينيين حياة كريمة، في أي اتجاه، وإذ أنها ظلت تراكم الفشل فوق الفشل في مواجهة تعديات الاحتلال وانتهاكاته وجرائمه اليومية، فقد وجد النشطاء الفلسطينيون في ارتفاع الأسعار ذريعة، أو مجرد غطاء، لإدانة ذلك الفشل.
والذريعة تفيد في أمرين. الأول، هو أن هراوات سلطة الرئيس عباس، لن تأخذها الانفعالات الى حد قتل المتظاهرين أو منظمي الاحتجاجات كما قتلت آخرين مثل الناشط نزار بنات.
والثانية، هي التلويح بالغضب الشعبي ضد سلطة "البلطجية" التي يقودها عباس، بوصفها نسخة أخرى من الاحتلال.
ولكي لا يتذاكى أحد على أحد، فإن سلطة البلطجية، كان تدرك الأمرين معا. فانقضت على المتظاهرين كما لو أنهم "حركة معارضة" متكاملة الأركان. وكما لو أنها ترفع شعارا يقول "تسقط سلطة الرئيس عباس" وليس مجرد شعار "بدنا نعيش". فشنت حملة اعتقالات ومداهمات فجرا ضد نشطاء الحراك واقتادتهم من فراش النوم الى مقر "اللجنة الأمنية" في أريحا، وفضّت التجمع في دوار "ابن رشد" في الخليل بالقوة.
المعتقلون أعيدوا لاحقا إلى نيابة الخليل، بعد أن قالت "اللجنة الأمنية" إن التحقيق معهم يدور حول تهمة "التجمهر غير المشروع".
الفلسطينيون وجودهم كله "تجمهر غير مشروع". أينما ذهبت تراهم يمارسون "تجمهرا غير مشروع". وهم يرون جيدا الآن أنه "غير مشروع" هنا، على غرار ما أنه "غير مشروع" هناك، لأن سلطة الاحتلال هي بالأحرى سلطة واحدة. لا فرق حقيقيا بين حكومة الرئيس عباس وبين حكومة نفتالي بينيت الراحلة أو حكومة يائير لابيد الانتقالية.
سلطة الاحتلال الفلسطيني نفسها تعرف أن القصة ليست قصة "ارتفاع أسعار"، وإنما قصة انخفاض قيمتها هي في أعين الذين تُخضعهم للاحتلال. إنها قصة انحطاط سياسي، تخلى حتى عن الدعوة الى "حل" وصار يطالب بـ"أفق للحل". أو بمعنى آخر.. "هات يا حمار لمّا يجيك الربيع".
لا تستطيع الزعم أن سلطة الرئيس عباس لا تدرك الفرق بين المطلبين. إنها تدرك، ولكنها لا تشعر بالخجل من أن الفارق يعني زيادة في التراجع عن المسعى الوطني لإنهاء الصراع على أساس حل عادل وشامل.
ولو أنك عدت بمسألة البحث عن "أفق للحل"، لكي تتبع نشأتها ومسارها، فلن يطول بك الوقت قبل أن تكتشف أنها إسرائيلية المنشأ. فصارت مثل البصقة التي بصقها الاحتلال في فم الرئيس عباس، حتى صارت بصقته في وجوه الفلسطينيين، وحتى صارت جزءا من مخاطباته الرسمية.
وهو لا يخجل من تراجع قاموسه. كما لا يخجل من أن تكون مفرداته مأخوذة من قاموس الرواية السياسية الإسرائيلية للأزمة وسبل حلها.
حراك "بدنا نعيش" كشف عن نفسه كحراك معارضة سياسية لأنه "يقف في وجهه الفساد ونهب أموال الناس بالباطل". ولأنه يقول "لا للفساد ولا للمفسدين والمطبلين لهم". وهذه دعوات لا علاقة لها بارتفاع الأسعار. إنها دعوات من صميم أزمة العلاقة مع سلطة لا تشعر بالخجل من أنها سلطة احتلال، كما لا تشعر بالخجل من أنها سلطة فساد، لا سلطة تحرير، ولا سلطة قضية وطنية من أي نوع.
الفساد، لا ينتج "مناضلين". ورؤوس الفساد ورعاته لا يمكنهم أن يكونوا قادة مشروع للتحرر الوطني. لا أحد يمكنه أن يقع ضحية لكذبة كبيرة كهذه. الفاسدون أنفسهم يعرفون أنهم أفسدوا لأجل الإثراء الشخصي على حساب القضية الوطنية التي تُقدم لها التضحيات كل يوم.
تكذب سلطة الرئيس عباس لو قالت إنها لا تملك أموالا تكفي لإلغاء الضرائب على المواد الأساسية. هذه السلطة تحصل سنويا على مئات الملايين من المساعدات العربية والأوروبية، كما تستحصل ميزانية ضرائب من الفلسطينيين أنفسهم، ما يغنيها عن فرض رسوم على المواد الغذائية.
الغذاء، على الأقل، هو أول الشراكة، وأول التضامن، بين الخاضعين للاحتلال. فما لم يكن "البيت الفلسطيني" بيتا واحدا، بفقرائه وأغنيائه، فمن أين تأتي المقاومة؟ ومن أي باب يأتي التحرر؟
ولو أن السلطة الفلسطينية عانت من بعض النقص في بعض ما ألفت الحصول عليه من مساعدات، فبسبب سياساتها العدائية ضد بعض الدول العربية التي وجدت نفسها، بعد عقود من التضامن والمساعدات المادية والمعنوية، عرضة للتهجمات.
والأمر لم يكن مجرد تعبير عن حماقة سياسية. الذين يدافعون عن قضية وطنية، يعرفون أنهم بحاجة الى كل عون. ولكن أهل الفساد، إذ يركنون الى ما لديهم من بدائل شخصية، فلا يعود يهمهم ماذا يحصل لشعبهم إذا تراجعت المعونات، أو إذا استرخصوا العنتريات ضد أشقائهم.
قطرة الحياء عندما تسقط، فإنها تسقط على كل وجه. لقد سقطت منذ أول هراوة رفعها فلسطيني ضد فلسطيني آخر. ثم سقطت منذ أول صفقة تجارة أو مال حصل عليه تاجر أو مرتش في السلطة، ولم تذهب لدعم المجهود الحربي ضد الاحتلال، كيفما كان شكل هذا المجهود. ثم سقطت، منذ أن تخلت "السلطة الوطنية" الفلسطينية عن أن تكون وطنية، لتتحول الى سلطة احتلال. ثم سقطت عندما تخلت عن قاموسها الوطني لتتبنى قاموس الاحتلال. ثم سقطت عندما تحولت الى سلطة بلطجية يستقوون بالاحتلال على شعبهم، لا بشعبهم على الاحتلال. ثم سقطت عندما صارت تقتل وتنتهك حقوق وتمارس أعمال التعذيب مثلما يفعل الاحتلال. ثم سقطت عندما صارت ترفع شعارات بقصد أن تكذب وهي تعرف أنها تكذب، هكذا "عيني عينك" من باب الزيادة في الوقاحة. ثم سقطت عندما لم تحمل كل فلسطيني على أن يحمل أخاه، ويقتسم معه الرغيف. ثم سقطت عندما لم تجعل ما تحصل عليه من أموال مكشوفا وخاضعا للمساءلة الوطنية والحساب. ثم سقطت عندما استمرأت انتهاك القانون، وهربت من استحقاقات الانتخابات. ثم سقطت عندما أصبحت لغة العلاقة مع قادة الاحتلال ألطف من لغتهم مع شعبهم وأشقائهم.
بالله، كيف يمكن لناقص قطرة حياء مع شعبه، أن يقف في وجه أي احتلال؟ كيف؟
حتى الزور والزيف والخداع لا يمكنه أن يزعم شيئا كهذا.
يحتاج المرء أن يأتي من قاع السوء والشر لكي يأتي بما تأتي به سلطة فشل لا تشعر بالخجل ولم تعد تعرفه من الأساس. حتى صار الفلسطينيون ينتهزون كل فرصة للاحتجاج ضدها، ولو عندما لا يكون الطقس مناسبا، لأنها وجه آخر للاحتلال.