علي الصراف يكتب:

بريطانيا وحكوماتها وصوتي

ليز تراس أكثر من مجرد “سياسي” تقلب في عدة مناصب وزارية ثانوية قبل أن تصبح لعام واحد وزيرة للخارجية، أثبتت خلالها جهلا بالتاريخ والجغرافيا. فالذين تقلبوا في تلك المناصب كثيرون. وحزب المحافظين يمتلك الكثير من الأعضاء ذوي الموهبة التي تجعل ما يتصفون به من جهل شيئا يبدو وكأنه معجزة ربانية.

إنها أكثر أيضا من مجرد “انتهازي” يعرف من أين تؤكل الكتف، تقلب بين الشيء والآخر كلما احتاج الأمر إلى تقلب. ما يجعل الثقة بما تقول صفقة خاسرة لكل من يعتقد أنها سوف تبقى على موقف واحد عندما تتغير اتجاهات الريح. فعلت ذلك عندما كانت طالبة في كلية ميرتون أكسفورد. وثق بها حزب الليبراليين الديمقراطيين، فجعلها رئيسة لفرع الحزب في جامعة أكسفورد، ولكنها انقلبت عليه وأصبحت عضوا في حزب المحافظين، عندما حصلت على مغريات قادتها لتتولى منصب نائب مدير مركز الأبحاث للإصلاح، قبل أن تصبح نائبا في البرلمان في العام 2010، ومن بعد ذلك بعامين بدأت مسيرتها في المناصب الحكومية في عهد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وصولا إلى عهد بوريس جونسون. ودائما ما كانت مخلصة لمن يرأسها.

ومثلما انقلبت من مدافعة عن البقاء في الاتحاد الأوروبي، لأن كاميرون كان كذلك، فقد أصبحت مدافعة عن الخروج لأن جونسون كان كذلك. وعندما شملت الاستقالات من حكومة الأخير العشرات من الوزراء وكبار المسؤولين، فقد حافظت تراس على منصبها، وبقيت وفية له، وامتنعت عن توجيه الانتقادات له حتى بعد استقالته. لا لشيء إلا لأنه لا يزال في منصبه حتى الخامس من سبتمبر المقبل.

وهي أكثر من مجرد شخص مولع بالمناصب. المولعون كثر أيضا. إلا أنها على مستوى من الوقاحة بما يكفي لأن تتغطرس في أي منصب تضعها فيه.

يغمرني الاعتقاد بأن بريطانيا لم تنضج بعد. لم تبلغ المستوى الحضاري الذي يؤهل حزب المحافظين فيها إلى أن يرقى فوق صغائره ونزعاته العنصرية

في مواجهة ريشي سوناك، وزير الخزانة السابق، البريطاني المولد ذي الأصول الهندية، تملك تراس صفة أهم من كل صفاتها السابقة، بل إنها موهبتها الوحيدة، هي أنها شقراء بعينين زرقاوين.

هذا هو ما يجعلها تتقدم في استطلاعات الرأي على سوناك، بأكثر من 20 نقطة.

سوناك حصل على دعم 137 صوتا من أصوات نواب الحزب. وهذا أمر يفترض، نظريا على الأقل، أن يسمح له بدعمهم لإقناع “جذور العشب” (أعضاء الحزب) بالتصويت لصالحه. ولكن استطلاعات الرأي تقول شيئا آخر.

تراس فازت بتأييد 113 نائبا، بعد أن ظلت متأخرة في كل الجولات السابقة، لتصبح ثاني المرشحين اللذين يتم تقديمهما إلى التصويت العام بين أعضاء الحزب البالغ عددهم نحو 160 ألفا.

اللورد فروست والسير أيان دانكن سميث غيرهما ممن دعموا تراس، وزعوا المناصب على من يرغبون بشراء أصواتهم. صفقات الوظائف الحكومية هي ما جعل تراس تتقدم على بيني موردونت في الجولة الأخيرة، ليس لأنها “أقل خبرة” أو “أقل ثقافة” من تراس، بل لأنها لم توزع المناصب كما يجب. ولو أن موردونت حافظت على تقدمها وفازت ببطاقة الترشيح الثانية، فقد كان من المرجح أيضا أن تتقدم على سوناك، لنفس الموهبة العظيمة التي تمتلكها تراس، وهي أنها شقراء بعينين زرقاوين، سواء بخبرة أم من دونها، بثقافة أم من دونها. الخبرة والثقافة أشياء لا تهم في مقابل الشعر الأصفر والعيون الزرق. الثقافة العامة هي التي تقول ذلك.

ليس من المعقول أن يتولى منصب رئيس الوزراء، ليقيم في”10 دواننغ ستريت” شخص هندي الأصول، يقر بأنه هندوسي، ويأتي بزوجة هندية (أكشاتا مورثي)، وطفلتين هنديتين (كريشنا وأنوشكا) ليعيشوا معه في المنزل الذي عاش فيه ونستون تشرشل وكبار عظماء هذا البلد العظيم ممن قادوا حروبا شملت ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وتسببوا في قتل مئات الملايين من البشر، ونهبوا ثروات بلدانهم، وحكموا الهند نفسها ومزقوها بكلتا اليدين.

صحيح أن سوناك مليونير، وزوجته مليونيرة ابنة ملياردير، ويعيش في منزل في ضاحية كنسينغتون، أرقى وأوسع من ذلك المنزل، وتخلى عن الإقامة في المنزل رقم 11 المجاور، إلا أن “10 دواننغ ستريت” يظل في النهاية منزلا لآرثر بلفور، صاحب الوعد الشهير، وهربرت هنري أسكويث الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الأولى وخرجت منها لتحتل نصف العالم، وآرثر تشمبرلين الذي تواطأ مع هتلر على تسليم تشيكوسلوفاكيا للنازيين في معاهدة ميونخ في العام 1938. إنه منزل لهؤلاء العظماء، ولا يليق بـ”باكي” أن يقيم فيه.

سوناك قال في مقابلة مع “بي.بي.سي” قبل 3 سنوات، إنه لم يعرف الكثير من العنصرية سوى أنه في مرة واحدة على الأقل جرب لسعتها الحارقة، عندما كان في مطعم للوجبات السريعة مع أختيه الصغيرتين وسمع “كلمة P”، وهي رمز لكلمة Paki، التي يلفظها العنصريون البريطانيون ضد كل ذي سحنة سمراء، ابتداء من الباكستاني إلى الهندي والبنغالي والعربي.

الأميركيون يمتلكون الثقة بمنصب الرئيس، لا بالرئيس. ولهذا السبب، فإن القناعة السائدة هناك هي أن البلاد تظل قوية وعظيمة، حتى ولو تولى رئاستها أحمق مثل دونالد ترامب

لا تعلم ما هي أحلام اليقظة التي أقنعت سوناك بطموح أن يُصبح رئيسا للوزراء في بريطانيا العظمى. ليس امتلاك الملايين والمليارات هي ما يشغل “الثقافة العامة” البريطانية، فهذه يمكن الحصول عليها من أينما كان. المسألة هي أن سحنته السمراء الضاربة إلى السواد تجعله هنديا، حتى ولو ذهب كل أسبوع إلى ملعب ساوثهامتون لدعم فريقه المفضل لكرة القدم، كما يفعل البيض، الـ”هلوغان” العنصريون.

ولكنه مع ذلك قدم برنامجا واقعيا لإدارة أزمة التضخم، وقال إنه سوف يجعل حكومته تعمل تحت حالة من “الإنذار” على عدة جبهات: ارتفاع الأسعار، وملف الهجرة وأزمة مؤسسة التأمين الصحي. أما بالنسبة إلى الضرائب، فقد اعتبر وعود منافسته مجرد أوهام، لأنها تعتزم خفض الضرائب على الأفراد والشركات، بينما الأولوية هي التحكم بالتضخم، قبل توزيع المليارات على الناخبين.

مدينة المال في لندن أصيبت بالذعر من وعود تراس الانتخابية، وقالت بعض شركاتها إن تراس في منصب رئاسة الوزارة “تُشكّل الخطر الأكبر على استقرار اقتصاد بريطانيا”. ولكن اذهب إلى “الثقافة العامة” لتسأل أيهما أهم: استقرار الاقتصاد أم العيون الزرق؟ ولا تنتظر الجواب. استطلاعات الرأي قدمته سلفا.

يغمرني الاعتقاد بأن بريطانيا لم تنضج بعد. لم تبلغ المستوى الحضاري الذي يؤهل حزب المحافظين فيها إلى أن يرقى فوق صغائره ونزعاته العنصرية.

الأميركيون يمتلكون الثقة بمنصب الرئيس، لا بالرئيس. ولهذا السبب، فإن القناعة السائدة هناك هي أن البلاد تظل قوية وعظيمة، حتى ولو تولى رئاستها أحمق مثل دونالد ترامب. وهي تغلبت على تاريخ طويل من العنصرية عندما انتخبت رئيسا أسود لدورتين.

البريطانيون يثقون بالعيون الزرق والشعر الأصفر. وكم أتمنى لو أكون مخطئا. آخر مرة ذهبت إلى صندوق الانتخابات كانت قبل عشرين سنة، لقناعة راسخة عندي هي أن حمارا يذهب وحمارا سوف يأتي. ومنذ أن منحت صوتي لتوني بلير، بقيت أشعر بالعار حيال كل خطوة قطعتها إلى الصندوق.

هذه المرة طلبت بطاقة الانتخابات، لعلي أعود إلى التصويت إذا ما ثبت أن نظرتي سوداوية أكثر من سحنة سوناك، وأن البلاد ليست بهذا السوء. فعندما يصبح هذا الرجل، المهذب، رئيسا للوزراء، تكون بريطانيا تغيرت بما يكفي لكي تستحق حكوماتها صوتي.