مختار الدبابي يكتب:
دستور قيس سعيد يعلن نهاية الطبقة السياسية القديمة
مثلت صورة راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، وهو يقرأ الفاتحة على قبر الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي في ذكرى وفاته، صورة رمزية عن نهاية الطبقة السياسية التي أدارت تونس خلال العشرية الماضية وتركت مكانها لطبقة سياسية جديدة لم تتشكل صورتها بشكل واضح إلى الآن، لكن يفترض أنها لن تحمل مواصفات المعارضة القديمة بمحاميلها الأيديولوجية وصراخها واكتفائها بوظيفة إصدار البيانات والتصريحات التي تدين الآخر دون أن تقدم بدائل لما تريد أن تؤسس له على أرض الواقع.
وتزامنت زيارة الغنوشي إلى قبر حليفه السابق في ما يعرف بتجربة التوافق مع البدء بإعلان نتائج موافقة التونسيين على الدستور الجديد الذي عرضه قيس سعيد على الاستفتاء لتبدو وكأنها زيارة لتأبين المرحلة الماضية بكل فاعليها من معارضات كلاسيكية تأسست قبل سنة 2011 أو ما بعدها، والتي قادت البلاد بالشعارات والصراعات دون أن تحقق أي نتائج، وعلى العكس فقد قادت إلى خسارة صورة تونس القديمة المثابرة الباحثة عن مكان بين الدول بالرغم من محدودية إمكانياتها.
ولا شك أن أكبر الخاسرين بعد استفتاء يوم الاثنين هي حركة النهضة الإسلامية ورئيسها الغنوشي الذي كان يريد أن يصعد على أكتاف ثورة 2011 ليعوض عن خسائر سبعين عاما ماضية ووصل إلى رئاسة البرلمان لكن عينيه ظلتا معلقتين إلى مهمة رئيس الجمهورية، وتمسك بهذا المطلب بالرغم مما وجه له من نداءات بأن ينسحب من المشهد لتهدئة الأوضاع في ظل حالة الاحتقان الكبيرة ضده وضد حركته، لينتهي الأمر إلى قرارات قيس سعيد التي حلت البرلمان ووضعت الأحزاب على الهامش.
المرحلة الجديدة ستكون مخصصة لجيل جديد من المعارضة قد يكون مبنيا على الأشخاص وليس الأحزاب، وقد يكون أحزابا بلا عقد تاريخية ولا رموز حاملة لأمراض الماضي
استعجلت حركة النهضة الحكم، واستعجلت وضع يدها على مؤسسات الدولة بالرغم مما كانت ترفعه من شعارات عن رغبتها في قيام حكم تشاركي “توافقي”.. أرادت الحركة، كما رئيسها، أن تعوض سريعا عما عاشته في مواجهة بورقيبة وبن علي، وقادت تلك اللهفة إلى خسارة كل شيء بما في ذلك مناخ الحرية الذي سمح لها بأن تتواصل مع الناس وتغريهم بخطاب المظلومية ونظافة اليد والتاريخ وكذلك بخطاب ديني محافظ يلعب على العواطف ثم سرعان ما تخلت عنه لإظهار أنها حركة “إسلام ديمقراطي” ترتبط بالإسلام بالمقاصد والشعارات العامة.
هذا الإسفين الأول الذي باعد بين الناس وبين حركة النهضة وعجل بعزلتها وهز من تماسك بيتها الداخلي فتسللت إليه الخلافات ثم الانشقاقات والاستقالات في مشهد مألوف للصراع على السلطة داخل الحركة التي لم تتعود سوى على السمع والطاعة ومبايعة القيادة.
لكن الإسفين الثاني الذي قاد إلى خسارة الحركة لكل رهاناتها هو سقوط استراتيجية التوافق التي تبنتها النهضة للحكم من وراء الستار، وأسس لها الغنوشي بالتحالف مع الرئيس الراحل السبسي، والتي نجحت من خلالها النهضة في أن تتجنب ما كانت تصفه بالسيناريو المصري في تونس، أي هبة شعبية على طريقة عبدالفتاح السيسي في مصر وبدعم عربي للتخلص منها ضمن رؤية إقليمية أشمل لمنع انتشار “الربيع العربي” وما يحمله من بذور التفتيت والحروب الداخلية خاصة بعد مآلات الحرب في سوريا واليمن.
الغنوشي نقل من خلال حيلة التوافق الأزمة إلى حزب “نداء تونس” الذي صعد بمقتضاه السبسي إلى هرم السلطة بدعم شعبي واسع على قاعدة العداء للنهضة، وسرعان ما هزت الخلافات والانشقاقات هذا الحزب الفتي، واستثمرت النهضة الصراع بين شقوقه لتظل هي المتحكم بالمشهد من وراء الستار.
وفي استرجاع لهذه الحقبة التي كان يوصف فيها من أتباعه وخصومه بأنه مهندس تفتيت الأحزاب، قال الغنوشي الاثنين إن “غياب التوافق اليوم يمثل خطرا داهما على تونس وأن البلاد أحوج ما تكون إلى شخصية توافقية مثل المرحوم محمد الباجي قائد السبسي من أجل بث روح المواطنة والتعاون والوحدة الوطنية”.
ولم تكن حركة النهضة هي الخاسر الوحيد، وإن كانت الخاسر الأكبر، فقد ظهرت أحزاب صغيرة بعد الثورة كنتيجة لصراع الزعامة بين الأحزاب التقليدية، أو في صعود مفاجئ بعد الثورة التي فتحت الباب أمام من هب ودب ليظهر في المشهد ويحلم بدخول البرلمان ثم يتحول إلى “زعيم” اختصاصه إثارة الفوضى والتعطيل والصراخ، وهي عناصر قادت إلى غضب الناس على المؤسسة التشريعية والمطالبة بحل البرلمان ودعم إجراءات قيس سعيد التي أعلن عنها قبل عام من الآن.
استعجلت حركة النهضة الحكم، واستعجلت وضع يدها على مؤسسات الدولة بالرغم مما كانت ترفعه من شعارات عن رغبتها في قيام حكم تشاركي "توافقي"
لقد أسدل الاستفتاء على الدستور الستار على الطبقة السياسية التونسية، قديمها الذي مارس معارضة بن علي، وجديدها الذي ولد من فوضى سياسية لما بعد ثورة 2011، وحتى لو استمر بعض هذه الأحزاب في الواجهة، فلن يمتلك مقومات البقاء والمعارضة خاصة بعد أن حسم الشعب في هذه المنظومة من خلال الدعم الكبير لقرارات قيس سعيد بعد 25 يوليو 2021 ثم الاستفتاء الذي تم بمناسبة نفس الذكرى. سيكون هذا الاستمرار مجرد تسجيل حضور.
كما أن محاولات مهادنة المرحلة الجديدة لن تفضي إلى نتيجة حتى بالنسبة إلى أولئك الذين ركبوا قافلة دعم الاستفتاء وتصدر الدعوة لإنجاحه وفضحت الصور والتغطيات الإخبارية محدودية حضورهم الشعبي.
لا تلومن هذه الطبقة السياسية إلا نفسها بسلبيتها وتشرذمها وتقديم مصلحتها، أو مصلحة داعميها، على حساب التونسيين، ولن توجه لهم دعوات لحضور تأبينهم السياسي بعد إقرار الدستور الجديد.
ستكون المرحلة الجديدة مخصصة لجيل جديد من المعارضة قد يكون مبنيا على الأشخاص وليس الأحزاب، وقد يكون أحزابا بلا عقد تاريخية ولا رموز حاملة لأمراض الماضي وراغبة في وضع يدها على القيادة لعقود طويلة. جيل يركز على العمل والبناء، وسيختبر الواقع شعارات هذا الجيل ويطورها ويضعها في خدمة البلاد ضمن رؤية الدستور الجديد الذي يقطع الطريق على الصراعات بتركيز السلطة في يد شخص واحد سيتحمل مسؤولية التخطيط والقيادة ويتحمل لوحده النتائج بالسلب أو الإيجاب.
وإذا كانت المعارضة الكلاسيكية دأبت على الانتعاش وتجديد الدماء بعد كل انتخابات كانت تجري خاصة في عهد بن علي بتركيز خطابها على التزوير والتعليق على محدودية نسب المشاركة، فإنها الآن لن تجد الفرصة لذلك ليس بالمنع ولكن لأن الناس الذين ستتجه إليهم لترديد الأسطوانة القديمة هم من حسموا فيها وتركوها تواجه العزلة بسبب تجربة السنوات العشر الماضية التي لم يتحقق فيها شيء ذو بعد اقتصادي أو اجتماعي يلمسه الناس، فضلا عن الاستهانة بالدولة وتركها تواجه أزمات كثيرة تهدد كيانها.
إن صورة الغنوشي الذي يقرأ في انكسار فاتحة الكتاب على روح السبسي ونهاية التوافق يمكن أن تتسع لتشمل كل المعارضين الذين راهنوا على أن الثورة ستحقق لهم أمجادهم الشخصية وتبوئهم المنازل التي حال بن علي دونها، ثم اكتشفوا أن تلك الأحلام ليست سوى أوهام، وأن الدولة قادرة على الدفاع عن نفسها في اللحظة الحاسمة ضد خصومها من الداخل ومن الخارج.