الحبيب الأسود يكتب:

نذر المواجهة في غرب ليبيا: الدبيبة والاستقواء بالميليشيات

طرابلس

مع كل يوم جديد، يتراجع رصيد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة أكثر في بورصة التقييم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حتى بات أقرب إلى الهيكل المفرغ من محتوياته. هو اليوم أقرب إلى أن يكون فزاعة أو “خيال مآته” وفق تعبير الأشقاء المصريين، والهدف من الإبقاء عليه مرتبط بالحفاظ على مصالح قوى دولية معروفة لا يهمها وضع ليبيا ولا مصير الليبيين، وإنما تهتم فقط بمصالحها التي تجد فيه حاليا خير ضامن لها، خصوصا في ظل اتساع رقعة التجاذبات والاستقطاعات في المنطقة بين الأطراف المتصارعة على مبدأ القطبية العالمية في وحدانيتها كما تريدها واشنطن وفي تعددها كما ترغب موسكو وبكين وقوى إقليمية أخرى.

خلال الأيام الماضية، شهد غرب ليبيا سلسلة من الأحداث التي تنذر بعودته إلى مربع الفوضى وتثبت فشل منظومة الحكم التي تم انتخابها من قبل ملتقى الحوار السياسي في جنيف أوائل فبراير 2021.

في طرابلس، أدت الاشتباكات المسلحة بين جهاز الحرس الرئاسي وقوة الردع الخاصة إلى سقوط 16 قتيلا وأكثر من 50 جريحا وفق إحصائيات وزارة الصحة، لكن مسؤولين حكوميين لم ينزعجوا لعدد القتلى والمصابين، واعتبروا أن الاهتمام الإعلامي بالمواجهة التي تواصلت أكثر من 14 ساعة، كان مبالغا فيه، بما يشير إلى وجود مؤامرة هدفها إحراج الحكومة، وفق تصوراتهم.

على ضوء ذلك، بادر الدبيبة بإعفاء وزير الداخلية خالد مازن من منصبه وإحالته على التحقيق، وكأن وزارة الداخلية تمتلك القدرة على مواجهة الميليشيات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقوة الردع الخاصة التي يتزعمها أمير الحرب السلفي عبدالرؤوف كارة، والتي يمتد نفوذها في كامل منطقة الغرب الليبي، وتحتكم على إمكانيات بشرية وتسليحية لا تتوفر لغيرها من الجماعات المسلحة ولا للأجهزة الحكومية السيادية، ولديها سلطة الملاحقة والتوقيف والتحري وتنفيذ الأحكام وإدارة المعتقلات وغيرها، وخلال الأشهر الماضية قادت مواجهات دموية مع بقية الميليشيات البارزة بالعاصمة ومنها “النواصي” و”دعم الاستقرار” وصولا إلى “الحرس الرئاسي” بما يؤكد سيطرتها الميدانية وفرض إرادتها على الجميع.

المطّلعون على مجريات الأحداث يعلمون أنه من الوهم الحديث عن إمكانية حل الميليشيات في يوم من الأيام، أو الحكم عليها بالاضمحلال عبر إدماجها في أجهزة الدولة

ضحّى الدبيبة بوزير الداخلية، وهو يعلم أن لا الحكومة ولا مجلس الوزراء ولا المجلس الرئاسي يستطيع التصدي للميليشيات التي تعود لها اليد الطولى في مدن الساحل الغربي، والتي وضعت يدها على الأرض والمجتمع ومراكز القرار لتصبح سلطة فوق السلطة، وقد شاهدنا خلال السنوات الماضية كيف يختطف المسلحون رئيس الحكومة ويحققون معه، وكيف يسيطرون على المشهد السياسي وعلى أسواق المال والأعمال وعلى الاعتمادات المصرفية، وكيف يمكن لأمير الحرب أن يصفع وزيرا على خده أو يركله بساقه، وكيف يفرض على المسؤول السياسي تغيير مواقفه أو التخلي عن التزاماته، وكيف تتدخل الميليشيات للتأثير على القرارات الحكومية والمبادرات السياسية وحتى على الحياة الاجتماعية وثقافة المجتمع والحريات العامة والخاصة، وكيف تمارس الإرهاب والتهريب والاتجار بالبشر وترتبط بشبكات عابرة للحدود البرية والبحرية تحقق من ورائها ثروات طائلة.

بالتأكيد أن المجلس الرئاسي غير قادر على مواجهة الميليشيات، وهو أضعف من أن يصدر قرارا ضد أمير حرب مثل عبدالرؤوف كارة أو عبدالغني الككلي، وحتى يافطة القيادة العليا للقوات المسلحة التي يحاول التمترس وراءها لا تعني شيئا في سياقات الواقع المعيش، وعندما تعرّض الحرس الرئاسي للملاحقة في شوارع العاصمة وساحاتها من قبل قوة الردع التي سيطرت على أكثر من 90 في المئة من مقارّه، كان هناك إحساس عام بأن الأمر يتعلق بصراع على التموقعات الجديدة وبمحاولة تشكيل خارطة مختلفة للنفوذ في طرابلس، ولاسيما في ظل الخلاف بين الحكومتين المتنافستين على تقاسم السلطة: حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها شرعيا بسحب البرلمان ثقته منها في 22 سبتمبر 2021 ثم بمنح الثقة لحكومة بديلة في الأول من مارس، وبانتهاء الأجل القانوني لخارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي في 21 يونيو الماضي، وحكومة فتحي باشاغا المنبثقة عن مجلس النواب والتي تباشر عملها من مدينة سرت ولكن دون اعتراف دولي.

ما يتغافل عنه البعض أن الميليشيات في طرابلس تبدو أكثر وعيا من السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد، وعادة ما يحتكم قادتها على عدد كبير من المستشارين ومن الخبراء المتخصصين، ولديها علاقات وارتباطات خارجية، ومصادر موثوقة للأخبار والمعلومات، وهي تحصل على تمويلات مجزية من إيرادات النفط والغاز، وتدير شبكات مهمة في إطار الاقتصادات المحلية التي باتت تحت هيمنة أمراء الحرب.

 والمطّلعون على مجريات الأحداث يعلمون أنه من الوهم الحديث عن إمكانية حل الميليشيات في يوم من الأيام، أو الحكم عليها بالاضمحلال عبر إدماجها في أجهزة الدولة. والدبيبة الذي كان أحد أبرز منتقدي المنظومة الميليشياوية قبل سنوات، أصبح منذ وصوله إلى كرسي الحكم مدافعا عنها بشراسة، ومعتمدا عليها في حمايته وفي حماية المقربين منه.

الميليشيات تبقى هي الأقوى في غرب ليبيا عكس المنطقتين الشرقية والجنوبية وبعض أجزاء المنطقة الوسطى التي استطاع الجيش أن يخضعها لنفوذه بقضائه على الجماعات المسلحة

في مصراتة، جدت اشتباكات مسلحة بين ميليشيا “لواء المحجوب” الموالية لباشاغا وميليشيا “القوة المشتركة” الموالية للدبيبة والتي سبق لها أن تورطت في الكثير من الجرائم الموثقة مثل قتلها المدوّن الطيب الشريري في مارس الماضي بسبب مواقفه المناهضة لحكومة الوحدة الوطنية، وتعتبر تلك الاشتباكات من المظاهر الميدانية النادرة في ثاني أكبر مدن الغرب الليبي والعاصمة الاقتصادية والتجارية، وأكبر مركز للسلاح والمسلحين منذ العام 2011 بدعوى الائتمان على ثورة فبراير وتحصينها من الثورة المضادة.

عندما حل باشاغا الأسبوع الماضي بمسقط رأسه مصراتة للقاء بفعاليات سياسية واجتماعية وبعدد من القادة الميدانيين، حاولت ميليشيا القوة المشتركة الهجوم على منزله في شارع “بازينة” بهدف اعتقاله تنفيذا لأمر شفوي من الدبيبة الذي يتحدر من نفس المدينة، لكن “لواء المحجوب” تصدّى للمحاولة لتتعرض بعض مواقعه لاحقا لإطلاق نار أدى إلى سقوط عدد من القتلى والمصابين في ظل تحذيرات من دخول المدينة مرحلة الاقتتال الأهلي نتيجة الخلاف السياسي وبسبب تمسك الدبيبة بالسلطة ولو على حساب أمن ليبيا واستقرارها.

وفي الزاوية، اجتمع شيوخ وزعماء قبليون وقادة أحزاب سياسية وناشطون ميدانيون لإعلان مساندتهم لحكومة الاستقرار في سعيها للتمكن من مباشرة عملها بالعاصمة طرابلس، وهو أمر مرتبط بالتحولات الحاصلة في المنطقة الغربية، وبالتمدد الذي باتت تحظى به حكومة باشاغا في مدن الساحل الغربي، وذلك كرد شعبي واسع على فشل الدبيبة في إدارة الشأن العام وفي الإيفاء بتعهداته الكثيرة التي تبين أنها مجرد أوهام ينثرها في إطار حركاته الشعبوية للاستمرار في الحكم الحالي وللفوز بأصوات الناخبين في أيّ انتخابات قادمة.

يتقدم باشاغا نحو طرابلس بخطى ثابتة، وهو ما جعل السفير الأميركي يتصل به في أكثر من مناسبة ليطلب منه عدم التسرع، فيما يتجه الدبيبة لتجميع أمراء الحرب من حوله، وهو لا يرى مانعا من تقديم المزيد من الصرر أو “الصريرات” من المال لكسب الولاءات، فالمهم بالنسبة إليه أن يستمر في الحكم ولو في صورة “خيال المآته” إلى ما لا نهاية، فمجرد حمله لقب رئيس الحكومة ورئيس مجلس الوزراء يعطيه الامتيازات الشخصية والفئوية التي يرغب فيها ويحتاج إليها حتى لو لم يكن له تأثير يذكر على الأرض.

تبقى الميليشيات هي الأقوى في غرب ليبيا عكس المنطقتين الشرقية والجنوبية وبعض أجزاء المنطقة الوسطى التي استطاع الجيش أن يخضعها لنفوذه بقضائه على الجماعات المسلحة، ورغم أن الدبيبة لم يأت من غبار الحرب الأهلية ولم يكن زعيم ميليشيا أو أمير حرب إلا أنه وجد في ذلك السياق ما يوفر له ضمانة للاستمرار في الحكم وأداة للاستقواء على منافسه فتحي باشاغا.

وهو ما ينذر باستمرار الأزمة الحالية وحتى بإشعال نار الحرب من جديد، لاسيما أن كل تحالفات الدبيبة الحالية مرتبطة بمبدأ صب الزيت على النار بدءا من الجماعة المقاتلة والصادق الغرياني وصولا إلى الميليشيات الخارجة عن القانون وفلول الجماعات الإرهابية الفارة من ضربات الجيش في بنغازي ودرنة.