فاروق يوسف يكتب:
الحرب في غزة والهدف في مكان آخر
كل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة وقعت لأسباب مفتعلة. حروب كان من الممكن تفاديها غير أن إسرائيل كانت تصر عليها. هناك ألف طريقة يمكن لإسرائيل أن تستعملها للقضاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة إن أرادت ولكنها لا تريد. وتلك هي المشكلة. مشكلة غزة العالقة بين طرفين أعماهما غبار الحروب عن رؤية المصير الأسود الذي انتهت إليه الحقيقة التي يحاربها الجميع.
المؤلم والمخزي في الوقت نفسه إنما يكمن في الاستخفاف بحياة أهل غزة الأبرياء الذين تأكلهم نار الحرب وهم يعيشون وضعا إنسانيا كارثيا منذ أن حلت النكبة في فلسطين. لم يخرجوا منه لا في ظل الاحتلال ولا تحت الحماية المصرية ولا في رعاية السلطة الفلسطينية ولا حين صارت غزة في عهدة حماس. غزة كانت هكذا دائما. منطقة للبؤس والتعاسة والحرمان والعزل كما لو أنها مصابة بوباء لم يُخترع له علاج.
من الجانب الفلسطيني فليس لتلك الحروب علاقة بالنضال الوطني الفلسطيني. سقط المئات من الضحايا وهُدمت الآلاف من البيوت والعشرات من المدارس والمستشفيات ومحيت أسباب الحياة من غير أن يتحرر متر واحد من فلسطين ولا التفتت إسرائيل أو العالم إلى القضية الفلسطينية أو إلى ما تبقى منها وهو ما يُسمى بالحل النهائي الذي جرى من أجله الاعتراف بإسرائيل وحقها في البقاء على حساب ما اندثر من الحق الفلسطيني.
مع كل حرب جديدة تستعيد الأصوات المتفائلة عافيتها لتبشر بالنصر الفلسطيني الذي بات قريبا بعد أن يعترف العدو بهزيمته. معادلة لا أحد في إمكانه أن يقوى على السؤال عن القاعدة التي تقوم عليها. ذلك لأن أي سؤال قد يُعتبر نوعا من السخرية التي يُراد منها التأثير على المعنويات التي تعلو وتنخفض مقطوعة الصلة بالواقع وما يمليه من شروط.
غزة لم تعد سوى جبهة متقدمة من جبهات النضال الإخواني سعيا وراء إقامة دولة الإسلام التي ترعاها إيران بحنكة وليها الفقيه
“هذه المرة ستكون مختلفة عن المرات السابقة”، ذلك ما يقوله المتفائلون وهم يرون هزيمة العدو ماثلة أمام أعينهم. ولأن إسرائيل لا تفكر في حروبها على غزة بالنصر والهزيمة فإنها تكتفي بإلحاق أكبر ضرر ممكن بغزة تنكيلا بأهلها الذين تعتبرهم متورطين في دعم التنظيمات المسلحة.
في حقيقة ما يجري فإن هذه المرة لن تكون مختلفة. لن تقدم عجلة اللامبالاة الإسرائيلية ولا تؤخرها. لا تبطئ من سرعتها ولا تدعوها إلى الاستعجال. شيء من هذا لن يحصل. لن يفك الإسرائيليون حصارهم عن غزة ما دامت غزة نفسها بعيدة عن القرار الوطني الفلسطيني الذي أصبح بعد وفاة ياسر عرفات غائبا أو مغيبا. ليس هناك قرار فلسطيني ما دامت سلطة ذلك القرار مفقودة. وهو ما أراح الإسرائيليين.
هل يتخيل البعض أن إسرائيل ستتفاوض يوما مع حركة الجهاد الإسلامي أو حركة حماس؟ النفي له ما يبرره. ليست غزة إلا جزءا من الخارطة الفلسطينية، مقطعة الأوصال. سياسيا وإداريا فإنها خاضعة لسلطة رام الله التي لا تعلن عن موقفها من كل الحروب التي تتعرض لها غزة. ولكن سلطة رام الله تركت الجمل في غزة بما حمل وتخلصت من عبء غزة وعبء أهلها. ما من أمل في أن تُستعاد غزة باعتبارها جزءا من الدولة الفلسطينية المحتملة.
هل غزة دولة أم إقليم يتمتع بالحكم الذاتي أم إمارة فالتة من الفضاء الفلسطيني بسبب التحاقها بالفضاء الإسلامي؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تضع حدا لسوء الفهم الذي يقع فيه المتفائلون الذين ينبغي ألا يكونوا غافلين عن الدور الإقليمي الذي تحاول أن تلعبه حركتا الجهاد وحماس. وهو دور يقع خارج نطاق النضال الوطني الفلسطيني. حين تحترق غزة بأهلها هناك أماكن تشعر بنشوة الانتصار. أماكن لا تقع داخل التراب الفلسطيني.
تلك حقيقة تعرفها إسرائيل جيدا غير أنها تتعامل معها بغباء عسكرها. إسرائيل دولة أسست على العنف وهي تعرف أنها محاطة بالأعداء لذلك فإنها تجيب على ما يستفزها بقسوة ليست مبررة. ما يزعجها تجعل منه سببا للحرب. والعالم كله يقف وراءها لأنه اشترك في جريمة إقامتها. تلك حقيقة يعرفها الفلسطينيون الذين ضاعوا في انقسامهم ما بين مطبع لم تعد لديه قضية سوى استرضاء المحتل وبين إسلامي صارت القضية بالنسبة إليه جسرا للعبور إلى أفق أكثر سعة.
أما غزة فإنها لم تعد سوى جبهة متقدمة من جبهات النضال الإخواني سعيا وراء إقامة دولة الإسلام التي ترعاها إيران بحنكة وليها الفقيه.