الحبيب الأسود يكتب:
في ذكرى تأسيس الجيش الوطني الليبي
في التاسع من أغسطس 1940 شهدت منطقة أبورواش بمحافظة الجيزة المصرية تنظيم أول تجمع للمقاومين الليبيين المؤسسين الأوائل للجيش الوطني الليبي وإعلان انضمامه إلى الحلفاء ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في منطقة عمليات شمال أفريقيا.
جاء ذلك بعد اجتماعات مطولة قادها الأمير إدريس السنوسي للتنسيق مع القوات البريطانية بحضور شخصيات ليبية كان لها دور كبير في حركة النضال ضد الغزو الإيطالي، كان أولها في منزله بالإسكندرية في العشرين من أكتوبر 1939، بمشاركة 40 من الزعماء القبليين وقادة المقاومة الوطنية في برقة، وعندما أعلنت إيطاليا الحرب في يونيو 1940 راهن الأمير إدريس السنوسي على استمرار المفاوضات مع الإنجليز والتي كان من مخرجاتها تشكيل فصائل من الليبيين لاسترداد حريتهم واستخلاص بلادهم من أيدي الإيطاليين، وقد توجه الأمير بدعوة إلى زعماء الليبيين للاجتماع من جديد في القاهرة في السابع من أغسطس وهو الاجتماع الذي تواصل لمدة ثلاثة أيام وصدرت على إثره قرارات التاسع من أغسطس.
حمل الجيش الليبي عند تأسيسه اسم جيش التحرير السنوسي، وأقيم له معسكر للتدريب في إمبابة بمصر وبلغ المتطوعون فيه ما يزيد عن 4 آلاف من الشباب والكهول الليبيين المقيمين في الديار المصرية وهم من القبائل المهاجرة بسبب الاحتلال الإيطالي، كرماح وأولاد علي والحرابي، الذين وجدوا دعما ومساندة من أبناء القبائل المهاجرة قبل عقود طويلة نتيجة الاضطهاد الذي مورس عليهم من قبل العثمانيين، كالبراعصة والجوازي وحبون والأشراف والزعيرات من العبيدات والجبيهات والسمالوس وغيرهم، وكان للجنرال الإنجليزي ميتلاند ويلسون دور مهم في تأسيس الجيش الوليد.
في الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الجيش الوطني الليبي، يرى أغلب الليبيين أنه لا أمل في تجاوز النفق المظلم إلا بتوحيد المؤسسة العسكرية وبحل الميليشيات وجمع السلاح وطرد المرتزقة
ساهم الجيش السنوسي في معارك شمال أفريقيا إلى جانب الحلفاء وكانت معركة “سيدي براني” على الحدود المشتركة بين ليبيا ومصر هي أول معركة خاض غمارها ليشارك بعدها في مطاردة قوات المحور المنسحبة غربا، وبعد تأسيس الدولة الوطنية في ديسمبر 1951، تم تكريس المؤسسة العسكرية وفق منهجية علمية واحترافية بالتعاون مع عدد من الدول الشقيقة والصديقة.
في أواسط العام 1953 أقرّ مجلس الوزراء تكوين جيش ليبي مهني مهمته الدفاع عن تراب الوطن ويحافظ على استقلال الدولة الناشئة، كما تقرر فتح مدرسة عسكرية تشرف على تدريب هذا الجيش في مدينة الزاوية الغربية لتخريج ضباط ليبيين مهمتهم العمل في الجيش الليبي، وتقرر الاستفادة من الاتفاقية العسكرية المبرمة مع بريطانيا التي تنص على قيامها بمساعدة ليبيا على تكوين جيش ليبي، وكانت هذه الاتفاقية تنص على إيفاد بعثة عسكرية بريطانية مهمتها التدريس والتدريب للشباب الليبيين لإعدادهم كلبنة لجيش مهني يحمي البلاد ويدافع عن استقلالها ووحدة أراضيها.
في البداية أسندت قيادة الجيش إلى ضابط إنجليزي ثم إلى العميد عمران الجاضرة وهو ضابط في الجيش التركي من أصول ليبية، وفي العام 1954 اختارت الحكومة الليبية المملكة العراقية لتدريب الجيش حيث انتدبت أفضل العناصر، وقد ترأس أول بعثة عسكرية عراقية العقيد الركن داود سليمان الجنابي والذي عين رئيسا للأركان بدلاً من العقيد الجاضرة. وحتى العام 1958 تولى رئاسة أركان الجيش الليبي ثلاثة ضباط عراقيين وهم الجنابي وعبدالقادر الناظمي وعادل أحمد ما جعل عقيدة العسكرية الليبية تتأثر بنظيرتها العراقية وخاصة من حيث تبني القضايا العربية والدفاع عنها. كما تأسست الكلية العسكرية الملكية الليبية على النمط العراقي، وكان أول أمراء الكلية وعدد من مدرسيها من الضباط العراقيين.
خضع الجيش الليبي للتأثير السياسي والعقائدي ولاسيما في مرحلة المد القومي وهو ما دفع بعدد من الضباط الشبان تحت مسمى الضباط الوحدويين الأحرار بقيادة الملازم معمر القذافي إلى تنفيذ انقلاب الأول من سبتمبر 1969 للإطاحة بالنظام الملكي، والذي تم اعتباره لاحقا ثورة بيضاء باعتبارها قد أحدثت تحولا راديكاليا في الدولة والمجتمع.
تعرض الجيش إلى عملية تدمير ممنهج ضمن مخطط ضرب الإطاحة بالدولة الذي برز في سياق ما سمي بالربيع العربي لتحل محله الميليشيات المسلحة المرتبطة بمشروع الإسلام السياسي والجماعات المتشددة التي سيطرت على كامل مناطق البلاد، قبل أن تنطلق عملية “الكرامة” بدعم من قبائل المنطقة الشرقية في ربيع 2014 والتي رفع المشاركون فيها شعار الحرب على الإرهاب وإعادة إحياء المؤسسة العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر.
وقد استطاع الجيش الوطني استعادة قوته خلال السنوات الماضية، وانتصر في حربه ضد الإرهاب والقضاء على الجماعات المتطرفة سواء التابعة لتنظيم داعش أو القاعدة أو المنفذة لأجندة جماعة الإخوان في أغلب مناطق البلاد، وفي تأمين منابع الثروة النفطية، وقال القائد العام المشير حفتر إن “الجيش لم يقبل التوقيع على اتفاقيات الذل ولم يستسلم أمام أفواج الإرهابيين، ولولا الجيش ومواقفه لما كان لليبيا دولة موحدة حتى اليوم ولا حكومة إلا للإرهابيين ولا مكان للانتخابات في مسار خارطة الطريق”، وتابع أنه “رغم الاختلافات الحادة والتصعيد الذي وصل إلى المواجهات المسلحة نمد أيدينا للسلام العادل، ولولا إيمان الجيش بمسار السلام لما كان للجنة العسكرية المشتركة أن تتشكل وتباشر أعمالها وتنجز شيئا من مهامها”، لافتا إلى أنه “على كل ليبي أن يفتخر بجيشه لأنه لم يكن يوما أداة للقهر والقمع أو متعاليا على شعبه أو مدعيا الوصاية عليه أو منحازا لقبيلة أو قرية أو مدينة بل للشعب”، مؤكدا أن “أيدي الجيش ستبقى ممدودة لمن يعمل على المصالحة وطي صفحات الماضي لبناء ليبيا جديدة يعمها الخير والسلام”.
بقدر ما أثبت العسكريون وطنيتهم أكد السياسيون انتهازيتهم من خلال تعاملهم مع الدولة والسلطة والثروة كغنيمة غير مستعدين للتفريط فيها لا اليوم ولا غدا
استطاع الجيش الوطني الليبي تكريس مبدأ المصالحة الوطنية في مناطق نفوذه، ونجح في استقطاب الآلاف من الضباط وضباط الصف والجنود الناجين من مذبحة الناتو في بلادهم خلال العام 2011، وممن كانوا يعانون من حالة التهجير القسري إلى دول الجوار أو من النزوح في الداخل ومن صنوف العذاب داخل سجون الميليشيات، وفي تخريج الآلاف من طلبة الأكاديميات المتخصصة سواء في الداخل الليبي أو في دول حليفة كمصر والأردن، ليصل عدد أفراده حاليا إلى ما يقارب 100 ألف عنصر، وهو الرقم الأكبر في تاريخ القوات المسلحة الليبية.
ورغم ما واجه ويواجه من مؤامرات تحاك في الداخل والخارج، نجح جيش ليبيا في إثبات وجوده وتأكيد جدارته بالدور المنوط بعهدته، وفي بسط نفوذه على إقليمي برقة وفزان وجزء مهم من المنطقة الوسطى مع تأمين أهم منابع الثروة سواء في الهلال النفطي أو في حوض مرزق أو في الواحات بالإضافة إلى موانئ التصدير، وهو اليوم جزء من أساسيات العمل السياسي وكان له دور مهم في الحوار السياسي وفي الوصول باللجنة العسكرية المشتركة إلى اتفاق أكتوبر 2020 وما تلاه من خطوات لإعادة توحيد البلاد ومؤسساتها.
ولكن تلك النجاحات لم تعجب دعاة الفوضى والعبث من مناصري الخطاب الثوري والديني المتطرف والجماعات الإرهابية والميليشيات وقادتها من أمراء الحرب المراهنين على إبقاء الوضع الميداني على ما هو عليه بما يخدم مصالحهم ومصالح المتصارعين على الحكم وشبكات الفساد ونهب الثروات في سياق التقاسم الغنائمي الذي لا يزال مستمرا منذ 2011 وأدى إلى إهدار ما لا يقل عن 600 مليار دولار من أموال الشعب الليبي، فأغلب الفاعلين السياسيين والحزبيين والميليشياويين في مدن الساحل الغربي ومن يدعمهم إقليميا ودوليا يرفضون وجود جيش وطني عقائدي قادر على أن يعيد للدولة سيادتها ويحمي مقدراتها، ويعملون على أن تكون الميليشيات المحلية والبنادق الأجنبية المؤجرة بديلا عن قوات مسلحة وطنية تحصّن الديار وتؤمّن القرار وتحفظ الأمن والاستقرار.
في الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الجيش الوطني الليبي، يرى أغلب الليبيين أنه لا أمل في تجاوز النفق المظلم إلا بتوحيد المؤسسة العسكرية وبحل الميليشيات وجمع السلاح وطرد المرتزقة وإجلاء القوات الأجنبية عن البلاد، وهو ما سيسمح لاحقا بتحقيق المصالحة الوطنية وتنظيم الانتخابات في إطار البناء الواحد الضامن للاختلاف من داخل إطاره الوطني الجامع، لكن الأدوار التخريبية التي يتولاها بعض السياسيين من اللصوص المحترفين وأباطرة النهب والابتزاز لا تزال تمثل عراقيل كأداء أمام إرادة القادة العسكريين في مختلف أرجاء البلاد، فبقدر ما أثبت العسكريون وطنيتهم أكد السياسيون انتهازيتهم من خلال تعاملهم مع الدولة والسلطة والثروة كغنيمة غير مستعدين للتفريط فيها لا اليوم ولا غدا.