هيثم الزبيدي يكتب:

وزراء مصريون فاشلون طالما لم تولد طبقة سياسية

القاهرة

تحتاج مصر إلى معين لا ينضب من الوزراء. يجب أن يكون الوزير من نوعية خاصة: تكنوقراط، يتحمل اللوم من الشعب والقادة، ينفذ خططا لم يشارك في وضعها، لا يتحدث أو يصرح بموقف سياسي، حتى لو كان شأنا محليا بسيطا، ولديه شنطة صغيرة يلملم فيها أغراضه وأوراقه ويغادر مقر الوزارة بصمت يوم يقال. عموما لا نعرف مصير الوزراء المغادرين، لأنهم عادة ما ينزوون. لكن تنتهي مسيرة أغلبهم المهنية يوم الرحيل عن كرسي الوزارة.

بالأمس ارتحل 13 وزيرا. أغلبهم أمضوا سنوات قليلة في مناصبهم. بالتأكيد بعضهم لم ينجح في مهامه لاعتبارات مختلفة، لكن البعض الآخر لم تتح له فرصة النجاح بسبب قلة الموارد أو الطلب منه أن ينفذ سياسات لم يسأل حين إعدادها. في بلد يحاصره نقص الموارد، يصبح النجاح والفشل قضية نسبية تحتاج إلى التدقيق والنظر. لكن من المؤكد أن إقالة 13 وزيرا بتعديل وزاري بهذا الحجم هي إشارة إلى خسارة كبيرة في الوقت وفي الخبرات. قد نقول: وأي خبرات يمكن أن يأتي بها وزير فاشل؟ الرد في ثنايا السؤال: لماذا فشل؟ لماذا تأتي بوزير تكنوقراط هو نظريا متخصص في وزارته، ثم تجد أنه مثل الذي سبقه والذي سبق من سبقه، يعجز عن تحقيق النجاح.

توزير التكنوقراط عبء عندما يصبح هو الأساس. ماذا يمكن أن يفيدك وزير كان قبل أيام معدودات أستاذا في جامعة؟ ماذا تستفيد من وزير يتلمس خطاه في وزارته التي عين فيها مؤخرا؟

من دون الدخول في الكثير من التفاصيل، نجد أن عملية تغيير الوزراء صارت عملية تنفيس سياسية. لكنها أيضا مشكلة كبيرة لأن ثمة تضييعًا لخبرات اكتسبت في العمل الحكومي، وهو عمل صعب بكل المقاييس في أيّ دولة، فما بالك إذا تعلق الأمر بمصر. صار الطبيعي أن نبدأ من جديد، على ورقة بيضاء مع كل تغيير وزاري. التراكم المعرفي لمهنة وزير، وهي لا تدرّس في معاهد أو جامعات، يبدأ وينتهي عند تجربة الوزير. ولأن الوزراء عمليا ليسوا شخصيات عامة، فلا نسمع شيئا عن تجاربهم أو تفسيرهم لما حدث خلال أشهر أو سنوات عملهم الوزاري. الملف يطوى برحيلهم. ومن النادر أن يتم استدعاء وزير من التقاعد وإسناد منصب إليه.

هذا ما يجعل مصر عاجزة عن صنع طبقة سياسية. الطبقة السياسية شيء مهم في حياة الشعوب المعاصرة. من دونها، ستكون قد وقعت في دوامة التجريب المستمر دون تحقيق اختراقات ملموسة.

من أهم الملاحظات التي تسجلها حين تتمعن في الطبقة السياسية في الغرب، أنها تراكمية وصبورة ولا تضحي بالشخصيات لتبدأ كل مرة من جديد. فكرة أن وزير الصحة طبيب ووزير الدفاع ضابط ووزير المالية مصرفي لا محل لها في عالم السياسة الحالي. الوزراء أعضاء في طبقة سياسية تستثمر أمتهم فيهم مثلما تستثمر العائلة في ابن لها.

سأضرب مثلا في بريطانيا بحكم العيش فيها لسنوات طويلة. وسأستخدم مثالا لشخصية عراقية وصلت إلى ثاني أعلى منصب في الحكومة البريطانية: ناظم الزهاوي.

لنضع جانبا أنه “أجنبي” أخذ الجنسية البريطانية بعد أن انتقلت عائلته للعيش في المملكة المتحدة. لكن مسيرته السياسية تكشف ما معنى الطبقة السياسية.

دخل المهندس الكيمياوي ناظم الزهاوي البرلمان البريطاني عام 2010 بعد سنوات من العمل كعضو في مجلس محلي لأحد أحياء لندن. كانت له نجاحات تجارية على المستوى الشخصي. وبعد فترة إعداد تقليدية داخل البرلمان، حيث يصبح عضو البرلمان الشاب مساعدا لأحد أعضاء البرلمان المخضرمين، بدأ رؤساء الحكومات البريطانية بإسناد مناصب رفيعة له. تنقل أولا بين عضوية اللجان البرلمانية التي تراقب أداء الحكومة، ثم كوكيل وزارة التعليم، ثم وكيل وزارة الصناعة، ومع أزمة كوفيد أصبح وزير لقاح كوفيد وأشرف على واحدة من أكبر عمليات التلقيح في تاريخ بريطانيا الحديث. وإثر تراجع خطر كوفيد عينه بوريس جونسون وزيرا للتعليم وعضوا في الكابينة الحكومية. ويوم اهتزت حكومة جونسون بعد استقالة وزيرين مهمين منها عين الزهاوي وزيرا للمالية، وهي خطوة جعلته آنذاك أقرب من أي وقت إلى صنع القرار. بعد أيام، كان الزهاوي من قال لجونسون ارحل. تقدم الزهاوي بترشّحه لرئاسة حزب المحافظين (أي من يرأس الحكومة في حال فوزه)، لكن آخرين كانوا أوفر حظا منه.

من دون طبقة سياسية بخبرة متراكمة ووعي وقلب باسل، سنمر كل فترة على تعديل وزاري، وسنحتاج إلى قائمة وزراء بدائل تبدأ ولا تنتهي

كل وزير بريطاني لديه تاريخ شبيه. عندما تسمع عن تعديل وزاري في بريطانيا، فإن القصد يكون تغييرا في المناصب، وليس إرسال الوزراء إلى بيوتهم واستدعاء آخرين من قرعة الحظ كي يحملوا الحقائب الوزارية. هكذا تكون الطبقة السياسية مستعدة دائما لرفد مؤسسات الحكم بأشخاص مروا بمراحل تدريب وتوزير ومسؤوليات. وزراء يعرفون عمق الدولة، فلا يضيعون أشهرا أو سنوات في معرفة مفاصلها. الوزير منصب سياسي وخبرة تراكمية طويلة. وإلا ماذا يفعل مهندس كيمياوي بمنصب وزير للمالية. لو حدث ذلك في مصر لسبق الاحتجاج الأخطاء حتى وإن لم تقع.

النموذج البريطاني قد لا ينطبق على مصر. لكن طالما أن التغيير يعقب التغيير والنتيجة واحدة، لماذا لا يتم التفكير في اختراق يخرج مصر من دوامة توزير التكنوقراط واستبعادهم والبدء من جديد -من نقطة الصفر- في كل مرة. لا شك أن بعض الوزراء مخضرمون بحكم عملهم كوكلاء وزارات، وتتم ترقيتهم إلى رتبة وزير. لكنه تعيين أشبه بأن تتم ترقية العميد إلى لواء. طبيعة المشكلة تبقى مثلما هي. هؤلاء موظفون بمراتب رفيعة، لكن لو سألت أيًّا منهم إن كان يحس بالانتماء إلى الطبقة السياسية، سيكون الرد: أنا عبد المأمور. عبد المأمور ليس منصبا سياسيا بالتأكيد ولن يكون وزيرا ناجحا مهما حاولت معه.

توزير التكنوقراط عبء عندما يصبح هو الأساس. ماذا يمكن أن يفيدك وزير كان قبل أيام معدودات أستاذا في جامعة؟ ماذا تستفيد من وزير يتلمس خطاه في وزارته التي عين فيها مؤخرا، أو لم يحضر نقاشا عميقا على مستوى طبقة سياسية تنظر في أزمات البلاد؟ لعل الجواب اليوم أكثر من حاضر مع تهرب كثير من المصريين من تكليفهم بوزارة.

من دون طبقة سياسية بخبرة متراكمة ووعي وقلب باسل، سنمر كل فترة على تعديل وزاري، وسنحتاج إلى قائمة وزراء بدائل تبدأ ولا تنتهي.