علي الصراف يكتب:
الغطرسة وما فوقها
تملك إسرائيل الحق في أن تكون دولة فوق القانون. تملك أن تتغطرس في كل ما تعتبره أمنها. تملك، أكثر من ذلك، تصورا للأمن يجيز لها أن تتجاوز كل المعايير والقيم والأخلاقيات الإنسانية والحيوانية في آن واحد.
أقصى ما بلغته الأعراف الإنسانية في الرد على القتل، هو مبدأ “العين بالعين والسن بالسن”. إسرائيل تملك الحق في أنها، إذا قُتل لها شخص واحد، أن تقتل عشرة، وتعتقل مئة، وتسجن مليونا. تملك الحق في أنه إذا أُطلقت عليها قذيفة خُلّب، أو ما شابهها، ترد بكل الطائرات والصواريخ والمدافع.
الحيوانات تقتل إذا خافت. ولكنها لا تبالغ في القتل. لو أطلقت ذئبا جائعا وسط عشرة أشخاص فإنه لن يقتلهم جميعا. لديه حس. لديه ضمير حيواني يمنعه من المضي قدما في مذبحة. يُشبع جوعه، أو يُطمئن خوفه، ثم يمضي.
إسرائيل تخاف. ولكنها تتصرف بما يزيد عن الخوف بأميال. تتصرف على أساس نوع من الذعر، لم يعرفه العالم في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولم تعرفه أي أمة من الأمم. الذعر يمكن أن يدفع إلى ارتكاب أعمال وحشية. ولكن ليس إلى الحد الذي تألف إسرائيل فعله.
هناك أمثلة عدة في العالم لدول تتصرف حيال مواطنيها كما تتصرف إسرائيل حيال الفلسطينيين؛ تكذب مثلما تكذب، وتبالغ في الهستيريا مثلما تبالغ، وتستهين بالأعراف والمعايير والقيم
هي دولة معترف بها من جانب عدد كبير من دول العالم. لا يهمني أن أعرف كم. لا يكفيها ذلك. ولكنها تريد أن يُعترف بها كدولة، من جانب الذين تقتلهم وتسلب أرضهم بالذات. لا يكفيها ذلك أيضا. تريد منهم أن يتنازلوا لها، بعد كل شيء آخر، عن ملابسهم أيضا. وتريد من سلطتهم، إذا وجدت، أن تعمل على حماية أمنها لا حماية مواطنيها. لا تملك هذه السلطة، إذا وجدت، أي أداة لحماية أحد، ولا حتى نفسها.
كل أشكال الغطرسة ممكنة لإسرائيل. لا توجد حدود. لم يحدث أن طارت الغطرسة بأربعين جناحا، لتحلق فوق كل ما يعرفه البشر من قواعد وأعراف. الغطرسة نفسها تجلس أحيانا لكي تتعجب مما يمكن لإسرائيل أن تفعله بها.
توجد “أمم متحدة” تُصدر قرارات. ولكن إسرائيل وحدها التي يجوز لها عدم الالتزام بها.
هناك عالم يجد نفسه مُحرجا. لا يعرف ماذا يقول أو يفعل عندما تريد إسرائيل أن تبطش. يستطيع هذا العالم أن يرى كيف أن دولة تبطش بدم ضحاياها، خبط عشواء، كمن يدخل سجنا مغلقا على عشرات الأطفال والنساء والرجال العزل، وهو يحمل رشاشا غير محدود الطلقات، فيطلق النار من دون توقف، أو يحدد موعدا عشوائيا، بعد أسبوع مثلا، لكي يتوقف.
عندما يرى العالم ذلك، فهناك كلمتان هما كل ما يمكن أن يُقال: “ضبط النفس”. لا نقد ولا إدانة ولا تحذيرات من عواقب ولا أي شيء. فقط “ضبط النفس”. إنه تعبير قد يبدو عاجزا، مشلولا، فاشلا، أو بلا صلة. إلا أنه مع ذلك يعكس جانبا من الحقيقة، وهو أن الهستيريا الإسرائيلية تحتاج أن تهدأ. الدعوة إلى “ضبط النفس” اعتراف ضمني بأن النفسية الإسرائيلية تنفلت من عقالها، أو أنها بلا عقال، إلى درجة أنها تستدعي “ضبطا للنفس”. المتهسترون الذين يمتطون دباباتهم وطائراتهم وصواريخهم ومدافعهم للهجوم على سجن مغلق، يحتاجون بعض التذكير بفائدة العودة إلى “ضبط النفس”.
لا توجد عواقب أخرى. ارتكبت إسرائيل شتى أنواع المذابح. تاريخ وجودها هو تاريخ مذابح. ولكنها لم تعرف نقدا أو قيودا أو عقوبات. وبالتأكيد لم يقل لها أحد: كفى. كما لا توجد خطوط حمر لا يمكن لإسرائيل تجاوزها.
هذا ما يجعلها دولة فريدة في العالم. إنها شيء مختلف تماما. كيان استثنائي كليا. يعيش على معاييره الخاصة التي يستطيع تغييرها كلما أراد ذلك. يتصرف حسب الظروف، وحسب أوضاعه النفسية في تلك الظروف.
كل أشكال الغطرسة ممكنة لإسرائيل. لا توجد حدود. لم يحدث أن طارت الغطرسة بأربعين جناحا، لتحلق فوق كل ما يعرفه البشر من قواعد وأعراف. الغطرسة نفسها تجلس أحيانا لكي تتعجب مما يمكن لإسرائيل أن تفعله بها
هذا الأمر مقلق من ناحية أخرى غير النواحي المألوفة. هو أن وجود قوة بطش وغطرسة من هذا النوع، يستسخف العالم. يستسخف حضاراته وأديانه ومعاييره وأخلاقياته وقوانينه ومؤسساته وعلاقاته ومصالحه. يستسخف كل شيء فيه، ويُظهره كعالم بلا معنى، ووجوده بلا قيمة.
حتى الحيوانات في الغابة يمكن أن تتضرر من جراء الاختلال المريع لمعايير القتل المألوفة لديها. صحيح أن هذه الحيوانات لا تعرف ماذا يجري في غزة، وهي سعيدة بذلك، إلا أنها سوف تخشى من أن تواجه تحديات أخلاقية إذا أصبحت إسرائيل هي العالم، أو أن مسالكها التي تحتاج إلى “ضبط النفس” صارت هي المسالك السائدة في تمزيق الجثث. هناك ضوابط حيوانية تمنع تمزيق فريستين إذا كان الشبع تكفيه فريسة واحدة.
المسألة ليست أن العالم يتصرف بجبن تجاه الغطرسة الإسرائيلية. إنها أبعد بكثير من تأثيرات “اللوبي الصهيوني” المزعوم هنا وهناك، وضغوطه على السياسيين أو الخشية من الاتهام بـ”معاداة السامية”. المسألة هي أن لهذا العالم معاييره وقواعده وضوابطه. ووجود إسرائيل في حالة ذعر دائم يجعل من تلك المعايير والقواعد مجرد كلام لا معنى له.
قد تمضي عقود وأنت تحاول أن ترسي اعتبارات ومزاعم حضارية وتدافع عن حقوق هذه الفئة من البشر أو تلك، وتتباهى بها أمام المرآة لكي ترى نفسك أجمل أو أرقى أو أفضل. ولكن ما إن تظهر إسرائيل في الصورة، بأعمالها التي تتطلب “ضبط النفس”، حتى تتهشم المرآة، ويُصبح كل ما اعتقدته عن نفسك سخيفا أو مصابا بخلل أو أنك منافق يمارس “معايير مزدوجة”.
الاعتقاد لدى العالم أنه أكبر من إسرائيل. ولكن هذا الاعتقاد يستحق إعادة نظر. إسرائيل فوق العالم، وأكبر منه، وهي التي تملي عليه كيف يتصرف. ووجودها يدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن البطش والوحشية هما السبيل الأمثل. هناك أمثلة عدة في العالم لدول تتصرف حيال مواطنيها كما تتصرف إسرائيل حيال الفلسطينيين؛ تكذب مثلما تكذب، وتبالغ في الهستيريا مثلما تبالغ، وتستهين بالأعراف والمعايير والقيم، فقط لأن هناك دولة تفعل الشيء نفسه، ولا يعاتبها أحد.
أمر الفلسطينيين لا يهم. بسيطة. هؤلاء الناس اعتادوا على أن يكونوا ضحايا مجزرة. ولكن هل تستطيع باقي دول العالم أن تعيش في حالة تستوجب كل هذا المقدار من “ضبط النفس”؟ كيف يمكن للذئب، أو النمر أو التمساح، أن يعيش حياة طبيعية إذا وجد نفسه يقتل عشرة كلما دفعه الجوع أو الخوف إلى فريسة واحدة؟
لا شك أن وجهة نظر الحيوانات، بعالم كهذا، لن تكون إيجابية، لو أتيح لواحد منها أن يدلي بتصريح من على منبر الأمم المتحدة.
لست قلقا على مصير الأطفال في غزة. أنا قلق من وجهة نظر الحيوانات بعالمنا.