د. صبحي غندور يكتب:

دور منشود للشتات الفلسطيني في أميركا الشمالية

رغم الأبعاد الهامّة للقضية الفلسطينية، يتعثّر دور العرب والفلسطينيين في المجتمع الأميركي، ويتواصل ويمتدّ حبل الكذب والتزوير للحقائق من قِبَل الجماعات المؤيّدة لإسرائيل. فالتأثير العربي في سياسات دول الغرب ما زال لأسبابٍ عديدة محدوداً، بينها طبعاً تشرذم العرب أنفسهم، وتضارب اهتماماتهم الوطنية، وضعف تمسّكهم بهويّتهم العربية المشتركة. وسيكون الفارق كبيراً في أعمالهم وحركتهم لو توفّر أمامهم نموذجٌ فلسطينيٌّ رائد في إطاره التنظيمي، وفي برنامجه الوطني الفلسطيني الشامل. وسيجد المهاجرون العرب أنفسهم معنيّين بدعم هذا الإطار الفلسطيني التنسيقي المقترَح، ففيه ستكون، ليس سلامة المرجعية للفلسطينيين في الغرب فقط، بل أيضاً إعادة الحيوية للقضية الفلسطينية لدى كل المهاجرين العرب.

في أميركا مئات الألوف من الفلسطينيين، وهم بمعظمهم الآن من المواطنيين الأميركيين، وفيهم كثافة كبيرة من المهنيين الناجحين جداً في أعمالهم الخاصة، بل إنّ معظم المؤسّسات والجمعيات العربية والإسلامية ينشط فيها بدرجة أولى من هم من أصول فلسطينية. وهناك أيضاً العديد من المتموّلين الفلسطينيين المقيمين في الولايات الأميركية. وهذه كلّها مواصفات لتشكيل قوة سياسية واقتصادية فلسطينية فاعلة لو جرى الجمع أو التنسيق بين عناصرها المبعثرة طاقاتها والمشتّتة أعمالها. فالفلسطينييون، كما العرب عموماً في أميركا، ينجحون في أعمالهم الفردية ويتعثّرون كثيراً في مؤسّسات العمل الجماعي المشترَك. قد يكون مردّ ذلك هو الانقسامات السياسية الحاصلة حول قضايا عربية مشتعلة الآن، أو قد يكون السبب في قلّة الخبرة في العمل المؤسّساتي، أو في طغيان "الأنا" على "نحن"، أو السلبية تجاه العمل المنظّم المشترَك، أو عادات ومفاهيم تعتبر نجاح "الآخر" وكأنّه فشلٌ للنفس!.

وصحيحٌ أنّ في الولايات المتحدة العديد من المراكز والمؤسّسات والجمعيات الناشطة بأسماء فلسطينية، وبعضها بأسماء قرى ومدنٍ فلسطينية، لكن لا توجد حالة تنسيق وتفاعل دائم بينها ممّا يجعلها تجيد "اللحن المنفرد" وتعجز عن العمل المشترَك بمفهوم "الأوركسترا".  

ومهما كانت الأسباب وراء غياب "العمل الفلسطيني المنظّم المشترَك" على الساحة الأميركية، فإنّ ذلك أصبح حالةً سلبية خطيرة لا يجوز استمرارها، خاصّةً في مرحلةٍ أضحت فيها القضية الفلسطينية مُهمّشةً دولياً وعربياً، بينما تواصل إسرائيل الإستيطان والتهويد في الأراضي المحتلّة.

وما تعيشه الولايات المتحدة الأميركية الآن من مناخٍ شعبي واسع ضدّ العنصرية المتجذّرة في المجتمع الأميركي، هي فرصةٌ مهمّة على المستوين الأميركي والعالمي للمطالبة أيضًا بوقف كافّة أشكال العنصرية والاضطهاد التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين لعقودٍ طويلة.

لكن هذا الأمر داخل اميركا الشمالية يتطلّب وجود مؤسّسات فلسطينية فاعلة وقادرة على جمع الطاقات الفلسطينية، وعلى التنسيق مع مؤسّسات المجتمع المدني الأميركي والمنظّمات الداعمة لحقوق الإنسان، بحيث تصبح مسألة مناهضة الاحتلال الإسرائيلي العنصري قضية إنسانية عامّة لا تختصّ فقط بالشعب الفلسطيني، تماماً كما كانت مسألة مناهضة النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا.

إنّ الكفاءات والطاقات الفلسطينية المنتشرة في الولايات المتّحدة هي مهمّة جداً، حجماً ونوعاً، لكنّها مبعثرة ومشتّتة في بلدٍ تتحرّك فيه إسرائيل بشكلٍ واسع ومؤثّر عبر هيئاتٍ مختلفة مؤيّدة لها لأسبابٍ عدّة. وحتماً هناك تأثيرات سلبية كبيرة لواقع حال الخلافات بين المنظّمات الفلسطينية على الانتشار الفلسطيني في العالم، لكن الوقت قد حان للبحث في داخل أميركا الشمالية عن إطار تنسيقي يجمع الفلسطينيين بغضّ النظر عمّا حصل ويحصل من خلافاتٍ سياسية فلسطينية، خاصّةً في هذه الظروف التي توحّد فيها الموقف الفلسطيني من تداعيات اتّفاقية أوسلو ومن رفض "صفقة القرن" ومن السياسة العدوانية الإسرائيلية الحالية.

ولا أرى أنّ من المفيد أن ينتظر الفلسطينيون في أميركا الشمالية مباداراتٍ تأتي من "رام الله" أو من "غزّة" أو أي مكان آخر في المنطقة العربية، فالترياق المنشود لن يأتي من الخارج، وهي مسؤولية مباشرة على الفعاليات الفلسطينية التي تتحرّك فئوياً في الولايات المتحدة وكندا.

هناك حاجةٌ قصوى الآن إلى تأسيس "الرابطة الفلسطينية في أميركا الشمالية" لتكون إطاراً عاماً يجمع نخب الشتات الفلسطيني في أميركا الشمالية، بشرط مسألتين: الأولى، أن يكون هدف الرابطة هو البناء التنظيمي الديمقراطي بعيداً عن التحزّب السياسي الذي يسود أوساط المنظمات الفلسطينية، ثمّ ثانيًا، تشكيل "الرابطة" من خلال الدعوة في المدن الأميركية والكندية لمؤتمرات شعبية فلسطينية عامّة تنتخب ممثّلين عنها لعضوية الرابطة. وفي مرحلةٍ لاحقة، تضع هذه "الرابطة" برنامج عملها وأولويات تحرّكها وفق الرؤى التي يتمّ الاتّفاق عليها بين من يمثّلون القاعدة الشعبية الواسعة من المهاجرين الفلسطينيين.

هناك دورٌ كبير يقوم به نشطاء فلسطينييون في الولايات المتحدة لكن بمبادرات خاصّة أو فئوية، ونرى ذلك في مجال العمل السياسي الأميركي وفي الحملات الانتخابية وفي تأسيس الجمعيات وفي الأطر الإعلامية والأكاديمية، لكن من دون قدرة على تحويل هذه المبادرات إلى إطار فلسطيني تنسيقي واسع في تأثيره وشامل في انتشاره ومتواصل في عمله.

وسيكون وجود هذه "الرابطة الفلسطينية" المنشودة مفيداً ليس فقط للقضية الفلسطينية وللمهاجرين الفلسطينيين أنفسهم، بل أيضًا لما تريد المرجعيات الفلسطينية التركيز عليه من قضايا سياسية في الغرب وفي الساحة الأميركية خصوصًا، وممّا يجعل هذه "الرابطة" مستقبلًا حالةً شبيهة بما تقوم به "المنظّمة الصهيونية العالمية" من تنسيق بين المؤسّسات اليهودية العاملة تحت مظلّتها، كما سيكون للأميركيين الفلسطينيين الممثّلين في "الرابطة" إمكانية العمل مستقبلًا لبناء "اللوبي الفلسطيني" في حال جرى وضع إمكاناتٍ مادّية مساندة لعملهم السياسي في أميركا الشمالية.

إنّ ذلك لكفيلٌ أيضاً، في حال تحقيقه خلال السنوات القليلة القادمة، أن يجمع خلفه ومعه الكثير من الطاقات العربية الفاعلة في الولايات المتحدة. فالقضية الفلسطينية هي محور يلتقي حوله ومن أجله معظم العرب أينما كانوا، وهذه القضية هي أساس الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي قرنٍ من الزمن، منذ إطلاق "وعد بلفور" وخضوع البلاد العربية للهيمنة الأوروبية، ثمّ تأسيس دولة إسرائيل وبدء صراعها مع الدول العربية المجاورة لها.

ولا أرى أيضًا الآن إمكانية المراهنة على "دعم عربي خارجي" لمشروع "الرابطة الفلسطينية"، فالعرب في الأوطان العربية منشغلون اليوم في همومٍ كثيرة؛ بعضها ذو عناوين سياسية ترتبط في طبيعة أنظمتهم وفي الصراع على الحكم وفي التدخّل الإقليمي والدولي في شؤونهم الداخلية، والبعض الآخر منها يدخل في دائرة الهموم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لكن بشكلٍ عام هي الآن همومٌ وطنية داخلية في صراعاتها وساحاتها، وتنعكس سلباً على معظم المهاجرين العرب، وهي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل منتصف قرن، حينما كان الصراع مع إسرائيل يوحّد اهتمامات العرب أينما وجدوا، وحيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية.

وربّما من الواجب أيضاً أن يقترن بناء "الرابطة الفلسطينية" الفاعلة في أميركا بتنسيقٍ مفقود حتّى الآن مع العديد من الشخصيات والهيئات الأميركية غير العربية (بما فيها أيضاً من شخصيات وهيئات أميركية يهودية)، التي تتحرك في عدّة ولايات دعماً للقضية الفلسطينية ورفضاً للاحتلال الإسرائيلي، لكنّها لا تجد الدعم الكافي لها أو التنسيق الدوري معها في أميركا وخارجها.

حبّذا لو يسأل كلُّ فلسطينيٍّ في أميركا نفسه صباح كل يوم: كيف سأخدم قضيتي الوطنية اليوم قبل أيِّ قضيةٍ أخرى وقبل أي مصالح مهنية أو شخصية، عندها سيجد كل فلسطيني في أميركا ضرورة قصوى للتجمّع والتنسيق مع باقي الفلسطينيين في مؤسسةٍ قد حان وقت ميلادها.