علي الصراف يكتب:
مقتدى الصدر وفير الحظ وعاثره
لم يكن مقتدى الصدر وفير الحظ في التعليم أو الثقافة، إلا أنه كان وفير الحظ على كل وجه آخر.
غاب أبوه محمد محمد الصدر، وعمه محمد جعفر الصدر، فلم يبق في “بيت الصدر” مجتهد يمكنه أن يحتل مكانهما في الفقه الشيعي. وغاب إخوته مصطفى ومؤمل ومرتضى، فلم يبق في البيت أحد سواه، ليرث الاسم والعبء والتوقعات.
برز غداة غزو العراق مباشرة، من ناحية، لكي يسعى لاحتلال مكانة بين الجماعات الشيعية الأخرى التي حظيت بدعم بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق. فلمّا لم يأخذه الغزاة بالاعتبار، أعلن عن تأسيس “جيش المهدي”، ليقدم نفسه كمعارض لهم ولشركائهم الشيعة الآخرين، في آن معا.
ومن ناحية أخرى، لكي يوحي بأنه وريث جدير بالاعتبار، يستمد من المفاهيم الفقهية الصفوية ما يمكن أن يترك صدى بين الفقراء والضحايا والمكلومين، الذين غرقوا وسط الخراب الذي نشأ عن الغزو.
“جيش المهدي” كان جيشا جاهزا إلى حد بعيد، وهو متكون من أولئك الضحايا، الذين حرمتهم سنوات الحصار الطويلة ضد العراق، بين عامي 1991 و2003، من فرص التعليم، ومن كل شيء آخر، فلم يبق لهم إلا أن ينتموا إلى أول داعٍ يدعوهم إلى إثبات أنهم قوة “شعبية” جديرة بأن يكون لها حظ ونصيب.
ولقد وفر اندلاع المقاومة ضد الاحتلال للصدر فرصة سانحة أخرى، لكي يدّعي لنفسه نصيبا فيها. فقام جيشه ببعض الأعمال ضد الاحتلال، فيكون له شيءٌ من الرصيد الوطني. وعلى الرغم من أنه خضع لتهديدات القوات الأميركية، فقد ظل محظوظا معها لأنها آثرت ألا تحاربه، كما آثرت أن تغطي الجريمة التي قادها ضد منافسه الشاب عبدالمجيد الخوئي، الذي قتل طعنا بالسكاكين، فلم تلاحقه بها، لكي يكف عن مزاعم المقاومة في الوسط الشيعي.
الاحتلال أراد، تحديدا، أن يبني نظاما جديدا قائما على دعم هذا الوسط له، ولم يكن يرغب بأصوات معارضة فيه، لكي لا تنهار النظرية كلها، التي قامت على فكرة “إعادة العراق إلى مكوناته الأصلية”، وعلى أن “الشيعة مُضطهدون” في النظام السياسي العراقي، و أنهم”هم الأغلبية”. وهو ما يتوافق مع أسطورة “المظلومية” التي سوقتها الجماعات الشيعية لردح طويل من الزمن.
الاحتلال الذي أراد أن يبتزه بتلك الجريمة لكي يوقف “مقاومته”، نجح بوقفها بالفعل عندما قام الصدر بحل “جيش المهدي”. ولكن محاولات تهميش الصدر، من جانب المنافسين الشيعة الآخرين، دفعته من جديد إلى تأسيس “لواء اليوم الموعود”. وحيث أن المقاومة الوطنية ضد الاحتلال لم تتوقف على جبهاتها الحقيقية الأخرى التي قادها البعثيون وبقايا الجيش العراقي، فقد عاد “لواء اليوم الموعود” للقيام ببعض العمليات الرمزية ضد الاحتلال. وعندما عادت التهديدات الأميركية لتنذره الإنذار الأخير، قام بحل هذا اللواء أيضا.
ميليشيات الصدر قدمت مساهمتها في محاربة السنة وحرق مساجدهم وتدمير منازلهم إلى جانب مسلحي الجماعات الشيعية الأخرى، في ما تحول إلى حرب طائفية شاملة أدت إلى تقسيم المناطق في بغداد وإقامة الحواجز الإسمنتية بين بعضها.
وفي أعقاب سقوط الموصل، ومحافظات أخرى وإعلان قيام دولة “داعش” في العام 2014، توفرت للصدر فرصة ذهبية إضافية لتشكيل “سرايا السلام” كجزء من قوات “الحشد الشعبي” التي تأسست بموجب فتوى “الجهاد الكفائي” التي أصدرها المرجع علي السيستاني، وتحولت إلى قوة مسلحة كبيرة نسبيا، وتستفيد من الغطاء المالي الذي توفّر لها، كجزء من الحشد، وامتلكت أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة وصواريخ وراجمات ومدافع.
الجماعات الشيعية المهيمنة، منحته حظا آخر، بأن أعطته فرصة بالشراكة في أول حكومة بعد انتخابات العام 2006، وكل ما بعدها، وهو ما وفر له الفرصة للفوز ببعض المكاسب، التي ذهب معظمها إلى الموالين له.
هذه الجماعات، أرادت في إطار نظام الحصص، أن تحافظ له على حصته. كما أن إيران نفسها، التي سبق وأن دبّرت اغتيالات لقادة شيعة آخرين، مثل محمد باقر الحكيم وعزالدين سليم، تركت له الفرصة لكي يعزز نفوذه بدلا من أن تقتله، وذلك وفقا لحساب يقول إنه، بصفته كـ”معارض”، مفيد في لعبة تدوير الكراسي، عندما تحين الساعة. وهذا الحساب لا يزال قائما حتى الآن. وتحفّه فكرة أن “بيت الصدر” لا يتعيّن أن يخلو من شاغل، حتى ولو كان مشاغبا أو متمردا. فبيت الطاعة الإيراني يتسع للجميع.
فساد الجماعات الموالية لإيران، كان فرصة حظ أخرى، لا سبيل إلى نكران أهميتها. فهي قدمت له خدمة مجانية لكي يبرز كطرف داع إلى الإصلاح ومحاربة الفساد، ومن ثم لكي يحتل المكانة التي يحتلها الآن، كأكبر فريق بين الجماعات الشيعية، بعد انتخابات العاشر من أكتوبر 2021.
نتائج هذه الانتخابات نفسها، كانت من صنع طرف آخر، هو انتفاضة تشرين التي دامت عاما ونيفا، ضد نظام المحاصصة الطائفية والنفوذ الإيراني وسلطة الفساد.
لم يجتهد الصدر في كل ما توفر له من فرص، ما جعله وفير الحظ أكثر بكثير من كل قادة الجماعات الشيعية الأخرى، الذين سطروا لأنفسهم “نضالات” وأعمال إرهاب رعتها إيران، واغتيالات وتفجيرات، امتدت على عقدين أو أكثر من السنوات. جاءته الفرص كلها مجانا، بجهد طرف ثالث.
إلا أن تدني تعليمه وثقافته وتعقيدات المشهد العراقي، الاجتماعي منها على وجه الخصوص، هي ما يجعل صاحب الحظ الوفير هذا، هو نفسه صاحب الحظ العاثر.
العراق، من حيث المبدأ، لا يقاد إلى الاستقرار بمشروع طائفي. نقطة رأس السطر. وإذ تبدو البلاد عسيرة على التقسيم، وعسيرة على المساواة بين أقاليمها الثلاثة، وعسيرة على تكسير ميراثها الاجتماعي المتداخل، فإن أيّ تيار ذي طبيعة طائفية لن يمكنه أن يوفر فرصة لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية متوازنة.
هذه حقيقة، لا تتسع لها ثقافة الصدر المحدودة.
النظام الراهن، غير قابل للترقيع. إنه نظام فساد شامل. أيّ محاولة للترقيع سوف تترك فراغات لتمدد الفساد عبر منافذ أخرى. النظام برمته يجب أن يسقط، ويعاد تأسيس الدولة العراقية من جديد.
هذه حقيقة ثانية، لا تتسع لها ثقافة الصدر المحدودة.
“حصة كبرى” بين جماعات النفوذ الشيعية الأخرى، لا تعني سوى استمرار للنظام نفسه. كبرت الحصة أم صغرت، فإنها صورة لبيئة سياسية قائمة على الهوية الطائفية. بينما تاريخ السياسة، بل وحتى ما بقي فيها من ادعاءات ومزاعم، هو تاريخ انتساب وطني، على هوية عراقية، تعتبر الطائفية عارا، وتستنكرها، ولا تستمد منها معاييرها ولا تصوراتها ولا حلولها أو مشاريعها. ولهذا السبب، فحتى أعتى الطائفيين في العراق، يُنكرون أنهم طائفيون، ويزعمون أنهم “وطنيون”.
هذه حقيقة ثالثة، لا تتسع لها ثقافة الصدر المحدودة.
حظه العاثر، رغم كل ما جناه حظه الوافر، هو الذي سيغلب في النهاية، فيقرر صورته الأخيرة.