تجربة عُمانية في إنصاف الحق
لا شيء يُقلق في التقارير التي تصدر عن المنظمات الدولية أو المحلية التي ترعى الدفاع عن حقوق الإنسان، طالما أنها تصدر عن حقيقة، وطالما أنه لا أغراض سياسية أو انتهازية من ورائها.
ولا مصلحة لأيّ دولة من دولنا أن تنكر الحقيقة، إذا توفر ما يدل عليها بالفعل. والمبدأ البسيط الذي يتعين أن تنطلق منه هو أن الحق حق، والباطل باطل. ولا حاجة، كما لا فائدة، من مجانبة الحق أو مؤازرة الباطل.
الانتهاكات تحدث في كل مكان، وعلى مستويات شتى. ولكن الدولة، وسلطة القانون، تظل في مكان أعلى. ما يعني أنها ليست في حاجة، وهي في هذا العلو، إلى أن تتنازل عن تساميه، لحساب الدفاع عن أيّ خطأ.
منظمة “دو بولد” جمعت شهادات من مئات العاملات الأفريقيات اللواتي يعملن في سلطنة عُمان. وأصدرت تقريرا سرد جملة من الحقائق عن انتهاكات جمّة يتعرضن لها.
التقرير كان صادما، من عدة وجوه: من جهة طرائق التوظيف، ومن جهة ظروف العمل القاسية التي تمتد في بعض الأحيان إلى ما يتراوح بين 16 و20 ساعة، ومن جهة الحرمان من الحقوق أو الانتهاكات الجنسية أو الجسدية أو العنف اللفظي.
الكثير من العمال الأجانب في العديد من الدول العربية، الخليجية خاصة، يتعرضون لمثل هذه الأعمال. ولكن لم يحدث قط، على حد علمي على الأقل، أن خرجت مؤسسة رسمية لتقول: نعم هذا صحيح. ونحن نقف ضده. ونحرص على معالجته وفقا للقانون، وهذه وسائل التواصل بيننا لاتخاذ الإجراءات لمواجهة تلك الظروف حيثما تحدث.
اللجنة العمانية لحقوق الإنسان لم تجد نفسها في حاجة إلى الدفاع عن الباطل. أجرت تحقيقاتها لتكتشف من أين تبدأ الخطايا وإلى أن تنتهي.
مواجهة الحقيقة تتطلب شجاعة. ولكن معالجة الاختلالات تتطلب شيئا أبعد من الشجاعة، هو الدفع بالتزام القانون واحترام التعاقدات من جانب الذين يستخدمون العمالة الأجنبية.
وكالات التوظيف التي تستقدم هذه العمالة لا تكتفي بالخداع عن طبيعة العمل وظروفه. ولكنها لا تقدم ضمانات لهذه العمالة، كما أنها لا توفر لها المعلومات حبل سبل لمواجهة الانتهاكات، أو ما هي الأطر القانونية التي تحمي حقوقهم ويمكن اللجوء إليها.
“الاسترقاق” الذي يبلغ مستوى الاتجار بالبشر يبدأ من هذه الوكالات، التي بدلا من أن توفر غطاء يحمي هذه العمالة، فإنها تتعمد تجاهل القانون، كما تتخلى عن العامل الأجنبي حالما “تسلمه” إلى من يستأجره. ما يتيح لهذا الأخير أن يفعل ما يشاء.
اللجنة العمانية لحقوق الإنسان وضعت يدها على مصدر العلة، وآثرت أن تقدم لهذه العمالة سبل الوصول إلى مصادر الحماية.
لم يكن الأمر يتعلق بالشجاعة وحدها. ولا بالخشية من النقد. ولكنه يتعلق بموقف المؤسسة الرسمية من قيمها وقوانينها هي نفسها.
المجتمع العماني الذي يغلب على طبيعته التسامح والاعتدال، لا يليق بصورته هو أن تُنتهك. هذا هو الشيء الذي يستحق الدفاع عنه، حيال انتهاكات يمكن أن تحدث في أيّ وقت وفي أيّ مكان.
الأمر نفسه ينطبق على موقف المؤسسة الرسمية من طبيعتها هي، ومن مدى احترامها لما تسنّه من قوانين، وما تقتفيه من قيم وأعراف.
هذا في الواقع مظهر من مظاهر الاستقرار السياسي. بل ويستطيع المرء أن يذهب إلى القول: إن الشجاعة العمانية في التصدي للانتهاكات هي مظهر من مظاهر التماسك الأخلاقي، ليس للدولة ومؤسساتها، بل وللمجتمع نفسه أيضا.
كم من دولة عربية تسن قوانين تؤكد التزامها باحترام حقوق الإنسان، وتسرد في دساتيرها قبول المواثيق والأعراف الدولية الخاصة بها، ولكن مؤسستها الأمنية تمارس أعمال التعذيب والاعتقال التعسفي وغيرها من أشكال الانتهاكات؟
تحتاج إلى شجاعة لكي تعترف بوجود هذه الانتهاكات. ولكنك تحتاج إلى احترام لقيم القانون للوقوف ضدها والتصدي لها.
من هذا الاحترام يبدأ احترام الدولة لنفسها. ومن هنا يبدأ الخط الفاصل بين تعالي الدولة وانحطاط عالم الخطيئة والانتهاكات.
هذا الخط غير موجود في معظم أرجاء العالم العربي. الدولة تنزل أحيانا إلى مستوى مروّع فعلا في التغطية على الانتهاكات، وفي تبرير وقوعها، وفي توفير الحماية لمرتكبيها.
عُمان، أشجع من ذلك، وأرقى. واللجنة العمانية لحقوق الإنسان، عندما استدعت الحاجة لتدخلها، تدخلت من الجهة الأخلاقية والحقوقية والقانونية الصحيحة.
الانتهاكات سوف تظل تحدث. وهذا منقلب آخر ليس بأقل خطورة. لأنه سوف يستدعي أن يتحول التدخل إلى منهجية عمل مستمرة، حيث تتحول المؤسسة الراعية لحقوق الإنسان إلى ورشة متابعة لا تنقطع.
هذه الورشة قد تعمل على إنصاف المظلومين وتوفير الحماية لهم. ولكن عملها الأهم هو تغيير المسالك الاجتماعية التي تجيز التغاضي عن الانتهاكات أو قبولها على أنها أمر واقع.
بعبارة أوضح، فمثلما يقال “الوقاية خير من العلاج”، فإن الحؤول دون وقوع الانتهاكات، بتصويب الثقافة العامة، خير من ملاحقة مرتكبيها.
المسألة، مرة أخرى، لا تتعلق بخشية من انتقادات. لا تتعلق أيضا بما قد ينشأ عنها من أغراض تمارسها بعض الأطراف الدولية على سبيل الاستغلال السياسي. إنها مسألة موقف من النفس. من قوانينها وما تستند إليه من قيم وأعراف.
منظمات حقوق الانسان، الرسمية منها خاصة، التي تبدو وكأنها زخرف على حائط الإدارة العامة يحسن أن تتحول إلى ورشة عمل، تراقب الانتهاكات وتكافحها، وهي التي تُصدر التقارير عنها.
النموذج الذي قدمته اللجنة العمانية لحقوق الإنسان يفتح أبواب الأمل بأن ورشة العمل هذه يمكن أن تبدأ، كما يمكن أن تحقق الكثير لتغيير المسالك الاجتماعية التي تصمت أو تتواطأ مع المظالم والانتهاكات.
الدولة نفسها، كل دولة من دولنا، تستطيع القول: لسنا في حاجة إلى قبول الباطل. لا هو يقدم نفعا، ولا علوّ المؤسسة يسمح به.