علي الصراف يكتب:
التنمر الأميركي ضد السعودية
لو كانت السعودية عدوا للولايات المتحدة، مثل فنزويلا وإيران، لكانت في وضع أفضل من كونها حليفا، لأنها سوف تحصل على تنازلات ومساومات حتى ولو كانت تشن اعتداءات يومية وتمارس تهديدات ضد الوجود الأميركي في المنطقة. ولكان بوسع السعودية أن تقوم ببناء برنامج تسلح نووي لكي تفوز باتفاق يُقدم لها امتيازات وتتحول بموجبه إلى صديق يُعامل باحترام وخشية واحتساب.
ولكن السعودية، كحليف، تتعرض للتهديد والابتزاز والضغوط، وتُشن ضدها حملة تنمر تبدأ من البيت الأبيض، فالكونغرس، ولا تنتهي بالمحاكم، ما يجعل التحالف عبئا حان الوقت للتخلص من أوهامه.
التنمر ليس علاقة تحالف. إنه علاقة كراهية غير مضمرة واستعداء مكشوف، وربما أصبح من الواجب الآن أن تُقلب عليه الطاولة، بكل ما حملت. على الأقل لكي تفهم الولايات المتحدة أن السعودية ليست بلدا يجوز التنمر عليه أو تهديده.
تعتقد الولايات المتحدة، وهذا هو جوهر الخلاف، أنها هي التي يجب أن تقرر ما يمكن للسعودية أن تنتجه من النفط وتضخه إلى الأسواق. وهذا اعتقاد شديد السخف. ليس لأن السعودية دولة مستقلة فحسب، وليس لأنها قوة اقتصادية إقليمية يعتمد على استقرارها استقرار المنطقة بأسرها، بل لأن لديها مصالحها الخاصة التي يتعين أن ترعاها أيضا.
لكي تلاحظ حجم السخف، فالحقيقة هي أن الرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي يريدان أن يدخلا انتخابات الكونغرس الشهر المقبل بأسعار بنزين أقل مما هي الآن. وهو شيء يشبه القول: تغاضوا عن مصالحكم لكي نفوز في الانتخابات.
سوف تكتشف على الفور أنه لا يوجد شيء أسخف من ذلك، حتى ولو درت الكرة الأرضية كلها. ولكنه مألوف في واشنطن.
ولك أن تسأل: ماذا قدم بايدن للسعودية خلال سنوات الحرب في اليمن، وفي العلاقة مع تهديدات إيران، لكي يُكافأ عليه، إلا الخداع والتخلي عن الشراكة وقيم التحالف؟
لا تعاني أسواق النفط من شح في المعروض. وارتفاع الأسعار، حتى وإن كان على علاقة بالعرض والطلب، فإن له علاقة بالتضخم أيضا، الذي يشمل كل السلع. ولكن تريد الولايات المتحدة ألا يشمل أسعار النفط.
والطلب يرتفع، ليس لتلبية الاحتياجات التقليدية، وإنما لأغراض التخزين وبناء الاحتياطات خشية من العوامل غير المنظورة في الأوضاع الراهنة التي نجمت عن اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهذا عامل مهم، لأنه سوف يعود ليترك آثارا جسيمة على الأسعار عندما تمتلئ الخزانات وتتم تسوية النزاع في أوكرانيا.
الدول النفطية تعرف أنها تضخ الآن أكثر بكثير مما تحتاجه الأسواق. والقليل من فهم الحسابات يدل هذه الدول على أن الفائض الذي يجري امتصاصه اليوم، فيدفع الأسعار إلى الارتفاع، سوف يعود لينقلب على هذه الأسعار في وقت لاحق. بعبارة أخرى، ما يباع اليوم بـ90 دولارا، سوف يستقر على معدل لا يزيد عن 70 دولارا عندما تنقلب الأحوال.
الدول التي تقوم بالتخزين، لن تقوم بالتخزين إلى الأبد. سوف يأتي يوم لتستغني عن شراء المزيد من الخام، لكي تستهلك مما خزنته. هذا هو العامل المستقبلي الذي أخذته أوبك+ بالاعتبار عندما قررت خفض الإنتاج بنحو مليوني برميل يوميا. إنه خفض يتجاوب مع عاملين: الأول، هو أن هناك فائضا في الأسواق. والثاني، هو أن طاقة التخزين تبلغ أعلى مستوياتها في الهند والصين واليابان وأوروبا والولايات المتحدة نفسها.
لا توجد سياسة في هذا الواقع، ولا حسابات انتخابية، ولم يكن للأمر أي علاقة بحملة التنمر التي تزعم أن السعودية تدعم روسيا وتعزز خزائنها بالمال.
السعودية ودول أوبك الأخرى، إنما تدافع عن نفسها في حرب تُشن ضد مصالحها هي تحت غطاء الحرب ضد روسيا.
والحرب تجري من جانبين. الأول: السعي لوضع حد أقصى لسعر الخام الروسي، ما يشكل تهديدا لقواعد السوق، وما يشكل في الوقت نفسه تمرينا لفرض قيود مستقبلية على أسعار النفط الذي يُصدّره أي مُنتج آخر غير روسيا.
والثاني، هو حرب أسعار تقصد أن تجبر الدول النفطية على أن تدفع من عائداتها تكاليف التضخم التي لم تكن هي السبب من ورائها.
الدول الغربية أنفقت ما يصل إلى 15 تريليون دولار لتغطية تكاليف وباء كورونا. كانت تنثر الأموال (فعليا) على رؤوس الناس لكي يبقوا في منازلهم. هذه الأموال المنثورة، والمجانية، هي سبب التضخم، حتى من قبل أن تبدأ الحرب في أوكرانيا. وما كان بدولار صار بدولار ونصف. ولا تعرف كيف، أو بأي منطق، يصح أن تبقى أسعار النفط كما هي، أو أن يُفرض عليها التراجع عن طريق التهديد والابتزاز.
وبينما بقيت أوبك+ تضخ النفط بأعلى مستويات الإنتاج الممكنة على مدى ثمانية أشهر منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير الماضي، فإن الولايات المتحدة ضخت من احتياطها الإستراتيجي خلال هذه المدة 180 مليون برميل. وما يزال بوسعها أن تفعل ذلك، لأنها تملك احتياطات تبلغ 470 مليون برميل. والفائض الذي تواصل لثمانية أشهر، صار هناك فائض فوقه.
الولايات المتحدة، في الوقت نفسه، هي أكبر منتج للنفط في العالم! وهي ليست عضوا في أوبك، ويمكنها أن تزيد الإنتاج بأي مقدار تشاء من دون قيود.
الآن يحق للمرء أن يسأل: إذا كان ذلك كذلك، فلماذا حملة التنمر ضد السعودية؟
الرئيس بايدن هدد باتخاذ كل الإجراءات الممكنة ضد السعودية. وزير خارجيته تعهد بإعادة النظر في العلاقات مع الرياض. وقادة الحزبين في الكونغرس يريدون إقرار قانون “نوبيك” الذي يهدد دول أوبك بالمقاضاة أمام المحاكم الاتحادية الأميركية بتهمة الاحتكار. والسعودية هي الهدف بالدرجة الأولى. وهناك دعوات تتحول إلى صراخ من أجل سحب القوات الأميركية من السعودية ووقف تزويدها بالأسلحة.
كل هذا يجري ليكون غطاء آخر لتمرير صفقة العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ما يتيح لطهران ضخ المزيد من النفط وتحرير إنتاجها العائم في سفن الشحن من القيود. وفي الوقت نفسه، تخفيف أو رفع القيود عن صادرات النفط الفنزويلية، في إطار صفقة أخرى يجري الإعداد لها لتطبيع العلاقات بين واشنطن وكراكاس.
السعودية تتعرض للتهديد ليس لأنها فعلت أي شيء يضر بعلاقات التحالف مع الولايات المتحدة. وليس لأنها فعلت أي شيء يخدم مصالح روسيا، وليس لأنها فعلت أي شيء يزعزع استقرار سوق النفط، بل لأنها تتصرف كدولة مستقلة تراعي مصالحها الاقتصادية الخاصة، وتحرص على النظر باعتدال إلى المصالح المشتركة للمنتجين والمستهلكين في آن معا.
إنها دولة قيادة رشيدة في محيطها الإقليمي وفي كامل منظومة علاقاتها الدولية، سواء تلك التي تتعلق بالنفط أو بغيرها من العلاقات الاقتصادية والإستراتيجية.
فقط الذين ينظرون إلى السعودية كدولة ضعيفة أو كمجرد تابع أمني، هم الذين يتنمرون عليها. وعداؤهم أفضل لها من صداقتهم الزائفة. ولو أنهم قطعوا كل أواصر الزيف وأوهام التحالف، فلسوف يحق للسعوديين أن يخرجوا للرقص بالعراضة في الشوارع احتفالا بهذا الإنجاز.