محمد واني يكتب:
دعوة إلى إستراتيجية جديدة لمواجهة التحديات
حاولت الأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة التي مارستها، بدعم مباشر من إيران، تدجين سلطات إقليم كردستان وإخضاعها لأجندتها السياسية، ولكن سلطات الإقليم قاومت تلك الضغوط واحتفظت بخصوصيتها السياسية والقومية وحقوقها الدستورية في ظل نظام اتحادي فيدرالي، ورفضت بشدة الدخول في محاور طائفية وأن تكون قوة تابعة وجاهزة تحت الطلب لأي دولة إقليمية وأصرت على هذه السياسة.
ورغم الإغراءات والتهديدات المستمرة، ظلت عصية على التطويع والاستسلام وتتمتع باستقلالية في إدارة سياستها وتتعامل بنوع من الندية مع بغداد، وانتهجت سياسة اقتصادية مستقلة نوعا ما في زمن رئيس الوزراء السابق ورئيس الإقليم الحالي نيجيرفان بارزاني، من خلال إصدار قانون الاستثمار عام 2006 ودعوة الرأسمال الأجنبي إلى التدفق نحو الإقليم والاستثمار في مدنها التي شهدت إنماء عمرانيا واقتصاديا واسعا في غضون سنوات قليلة، انتعشت خلالها حركة التجارة حتى وصل حجم التبادل التجاري بين إقليم كردستان وتركيا يوما إلى 15 مليار دولار. أما بخصوص الاستثمارات النفطية، فقد تدفقت العشرات من الشركات النفطية العالمية الكبرى إلى الإقليم حتى ارتفع إنتاجه من النفط إلى 580 ألف برميل يوميا.
وعندما ضاقت سلطات الإقليم ذرعا بالسياسات العدوانية للأحزاب الشيعية وميليشياتها وعقوباتها الاقتصادية الجائرة، وبعد أن “غلب حمارها معها” اتجهت إلى الشعب ليتخذ قراره المصيري بتحديد نوع العلاقة مع بغداد، إما البقاء معها وتحمل “رزالتها”، وإما الانفصال عنها من خلال عملية استفتاء جرت عام 2017، فاختار الشعب الاستقلال والانفصال عن بغداد (الأزمات) وحاول الابتعاد عن الشر على وقع أغنية راشد الماجد “ابعد عن الشر وغنيله”، ولكن الشر لم يبتعد عنه وظل يطارده ويدخل في عقر داره على شكل الدرونات والصواريخ!
كان الاستفتاء ضربة قاصمة للقيم المألوفة البالية التي تجذرت في عقلية أنظمة الحكم في المنطقة، وتمردا صارخا على المعادلة الدولية والإقليمية والإستراتيجية الغربية التي قسمت المنطقة بهذا الشكل الجائر. والأهم أن الشعب كله (93 في المئة) اجتمع في صعيد واحد ليصوت للاستقلال لأول مرة في تاريخه المعاصر. ونبذ الحزبان المتصارعان الديمقراطي والوطني خلافاتهما التاريخية ووضعاها جانبا واجتمعا على قلب رجل واحد للتصويت على الاستقلال والإيذان بانتهاء التبعية!
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
رغم الرفض الأممي والأميركي لنتائج الانتخابات الشرعية، فإن الاستفتاء يظل علامة فارقة في حياة الشعب الكردي الذي قرر ولأول مرة الخروج عن الوصايا الدولية ومعادلاتها الإستراتيجية في المنطقة والتخلص من البؤرة السرطانية في بغداد وإسدال الستارة على حقبة تاريخية دموية مع أنظمتها القمعية المتعاقبة.. كان من الممكن جدا أن ينجح الاستفتاء ويصبح أمرا واقعا لولا خلافات البيت الكردي وانشقاق في الصف الكردي في آخر لحظة.
ربما أدرك بعض القادة، ومنهم رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني الذي يسعى منذ فترة لترتيب البيت الكردي وجمع الفرقاء السياسيين على طاولة الحوار الوطني، خطورة الأوضاع في ظل الهجمات العسكرية الوحشية التي يتعرض لها الإقليم والهوة الكبيرة التي تتسع بين الحزبين الرئيسيين يوما بعد يوم، خاصة في مسألة اختيار مرشح لمنصب رئيس الجمهورية العراقية المخصص للمكون الكردي، وإصرار كلا الطرفين على مرشحه، وبادر لدعوة الحزبين إلى إبرام اتفاق إستراتيجي جديد، يتوافق مع هذه المرحلة بدل الاتفاق “الإستراتيجي” الذي عقد بين الحزبين عام 2007 وبموجبه تولى جلال طالباني رئاسة الجمهورية العراقية، بينما تولى مسعود بارزاني رئاسة إقليم كردستان. ولكنّ أمورا سياسية و”انتخابية” كثيرة تغيرت في المشهد الكردستاني والعراقي، لذلك تحتم على الحزبين إبرام اتفاقية جديدة تواكب التطورات وتعزز وحدة الإقليم.. فقوتنا تكمن في وحدتنا.