مشعل السديري يكتب:
{وثائق} عن بعض أمراء المؤمنين (8)
دخلت امرأة على هارون الرشيد وعنده جماعة من أصحابه فقالت: يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وفرحك بما أعطاك لقد حكمت فقسطت، فقال: من تكونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم، فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم قضاء الله، وأما المال فمردود إليك، ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه وقال: أتدرون ما قالت هذه المرأة؟ فقالوا: ما نراها قالت إلا خيراً. قال: ما أظنكم فهمتم ذلك.. أما قولها: أقر الله عينك؛ أي أسكتها عن الحركة وإذا سكتت العين عن الحركة عميت، وأما قولها: وفرحك الله بما أعطاك، فأخذته من قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة)، وأما قولها: حكمت فقسطت، فأخذته من قوله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً) - انتهى.
ولو أنني كنت من ضمن أصحابه (لصفّقت) بكفوفي على كلامها إعجاباً، معتقداً أنها تدعو له وتمدحه.
كما يحكى أيضاً أن (الفضل بن يحيى) دخل على الرشيد وهو في (الرقة)، فقال للفضل: إن إسماعيل بن صالح بن علي صديقك، وأريد أن أراه، فرد عليه: إن أخاه عبد الملك في حبسك ونهاه أن يجيئك.
فأمر الرشيد في الحال أن يفرج عن عبد الملك، وبعدها قال للفضل: آتني بإسماعيل لأنني أريد أن أتعلل معه.
وفعلاً أتاه إسماعيل، فأجلسه، ثم دعا بالغداء، فأكل وأكل إسماعيل بين يديه، فقال له الرشيد: كأني قد نشطت برؤيتك إلى شرب قدح، فشرب وسقاه، ثم أمر بإحضار جوارٍ يغنين وأمر بسقيه، فلما شرب أخذ الرشيد العود من يد جارية ووضعه في حجر إسماعيل وجعل في عنقه سبحة، وفيها عشر حبّات من درر شراؤها بثلاثين ألف دينار، وقال: غنِّ يا إسماعيل، وكفّر عن يمينك بثمن هذه السبحة، فاندفع يغني شعر الوليد بن يزيد في غالية أخت عمر بن عبد العزيز، وكانت تحته، وهي التي ينسب إليها سوق الغالية، فقال:
فأقســـــم ما أدنيت كـــــفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصــبني مصـــــيـــــبــــــةٌ من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
فسمع الرشيد أحسن غناء من أحسن صوت، فقال: الرمح يا غلام.
فجيء بالرمح، فعقد له لواء على إمارة مصر.
قال إسماعيل: فوليتها سنتين فأوسعتها عدلاً، وانصرفت بخمسمائة ألف دينار، وبلغ أخاه عبد الملك ولايته، فقال: غنّى لهم الخبيث وأطربهم، رغم أنه ليس بصالح.