علي الصراف يكتب:

قمة تفريق الشمل.. الجزائر مع مَنْ، ضد مَنْ؟

أخيرا، سوف يتاح لنظام العسكرتاريا في الجزائر أن يتخلص من عبء انعقاد قمة عربية على أرض الجزائر. كان يتمنى لو أن مواعيد الترتيب الأبجدي قد أخطأته. سمّاها “قمة لمّ الشمل”، والشمل لم يلتئم بغياب نحو نصف القادة العرب. والسبب هو أنه لم يُرد أن يُقدم استعداداتٍ فعلية للمّ الشمل.

التعامل البارد، وفقا لـ”القواعد الدبلوماسية” مع المغرب، لم يَظهر كعلاقة بين أشقاء. إنه فقط علاقة قصدتْ أن تُظهر البرود وأن تُغلّفه بـ”القواعد”. وما كان بوسعِ مؤسسةِ العسكرتاريا الحاكمة أن تفعل شيئا آخر، لأنها تريد للعداوة بين البلدين أن تستمر وأن تتعقد، وأن تتحول إلى حرب مكشوفة، وأن تتقطع كل أواصر الشمل، ليس بين المؤسستين الرسميتين فحسب، وإنما بين الشعبين أيضا. وكأن المغاربة، عامتهم على وجه التحديد، هم العدوّ المبين. ولهذا السبب حصرا، فإن الحدودَ مغلقةٌ منذ ثلاثة عقود، رغم أنك لو دعوتهم إلى عرس أو مأتم لن تعرف مَنْ هو المغربي ومَنْ هو الجزائري. ولأجل عظمة المفارقة، فإن المغاربة، ليس بأقل من الجزائريين، يغنون: “وهران، وهران، رحتي خسارة”.

البرود الدبلوماسي نفسه ينطبق على العلاقات مع الدول العربية الأخرى. باستثناء سوريا. ولهذا الاستثناء معناه. وهو أن نظاميهما يشبهان بعضهما. أحدهما خاض حربا أهلية ضد الملايين من مواطنيه، والآخر خاض حربا أهلية ضد الملايين من مواطنيه، على الصورة الوحشية نفسها. وكلاهما قمع المعارضة الوطنية المعتدلة، وصنع كيانات سياسية هزلية تلائم مقاس حذائه. وكلاهما وجد في التطرف الديني مكسبا، لكي يزوّده بالسلاح فيحوّله إلى حرب، يعرف مسبقا أنه هو الفائز بها في النهاية، لأنه هو من يملك الدبابات والطائرات والقنابل.

محاولة إعادة سوريا إلى مقعدها فشلت في النهاية، لأن الوجه القبيح لتلك الحرب، ما كان مما سيُطاق أن يظهر بمظهر المنتصر. ولا كان مما سيُطاق أن يتلقى الحاضرون محاضرة ظافرية لثقافة البراميل المتفجرة.

مع مَنْ وقفت عسكرتاريا الجزائر في سوريا، ضد مَنْ؟ سؤال يعرف السوريون، كما يعرف الجزائريون جوابه. وقفت مع مرتكبي المجزرة ضد ضحاياها. وقفت بالأحرى، مع نفسها، لأنها فعلت الشيء نفسه.

في ليبيا، وقفت العسكرتاريا الجزائرية مع تركيا ومرتزقتها ضد الليبيين وضد مصر، بل وضد مصالح الجزائر نفسها. فما يكسبه الاحتلال التركي هناك، كانت الجزائر أولى به. إلا أن أخطبوط النخبة الذي هيمن على الجزائر، بقي مكتفيا بما هيمن عليه، ولم يُوسّع طموحاته، ولا حتى لخدمة مصالح الجزائر، لكي لا تتزعزع ركائزه أو تُصبح موضع مساءلات.

توسيعُ الطموحات يثير في العادة أسئلة عن الفائدة الوطنية منها. فيثير الشكوك حول ما آثرت النخبة أن تستولي عليه في البلاد. فأخذت العسكرتاريا الأمر من أقصر الطرق: لا طموحات في الخارج، ولا أسئلة تثير الشكوك في الداخل.

رجب طيب أردوغان يتوسع لصالح شركات بلاده. بينما لا تجد نخبة العسكرتاريا في الجزائر مَنْ تتوسع لأجله. إنما لكي لا تُسأل عمّا توسعت هي به.

قد يقول قائل، إن ذلك أمر لا صلة له بمنطق المصالح “الجيوسياسية”، وهو منطق سائد في علاقات عالم اليوم. ولكن أين يمكن العثور على المنطق في ثقافة احتكار السلطة؟ أين يباع في الجزائر؟

في العلاقة الوطيدة مع إيران، مع مَنْ وقفت الجزائر ضد مَنْ؟ لقد وقفت مع نظام همجي يمارس الأعمال نفسها التي مورست في سوريا ضد شعبه، ضد مخاوف كل دول الخليج من تدخلاته وأعمال ميليشياته في العراق وسوريا ولبنان واليمن. جرائم هذه الميليشيات غير منظورة في الجزائر! وهذا مما لا يثير العجب، لأنها لم تكن منظورة في الجزائر نفسها أيام دامت المجزرة عقدا كاملا من الزمن. حتى بلغ التواطؤ أن أقامت جسرا بين ميليشياتها التي تدعى “بوليساريو” وميليشيات حزب الله. وحتى بلغ السخف حدا أن أصبح تدريب بوليساريو وتسليحها جزءا من أطر التعاون “الأخوي” بين الشقيقين في طهران والجزائر.

هذان هما الشقيقان اللذان لمّت شملهما الجزائر: بوليساريو وحزب الله.

لم تسأل نخبة عسكرتاريا الجزائر نفسها: ما الذي يُجيز لإيران أن تصبح لاعبا في شمال أفريقيا؟ لأنها لم تسأل نفسها من الأساس: ما الذي يُجيز أن يأتي بتركيا لكي تحتل ليبيا وتستولي على مواردها وبحرها، وتبقيها رهينة لنظام عصابات مسلحة في طرابلس.

أما المصالحة الفلسطينية، فإنها هدف مهلهل من أهداف التنطع، جرّبته كل أنظمة الطغيان السابقة. و”الأشقاء” في سوريا مارسوا هذا التنطع أكثر من غيرهم، حتى أصبحت لهم منظمات وفصائل فلسطينية خاصة بهم، تريد هي الأخرى “تحرير فلسطين”، بينما لم تطلق طلقة واحدة على الاحتلال الإسرائيلي في الجولان لنحو نصف قرن.

إذا أردت أن تتعلم التنطع بالقضية الفلسطينية وتكسب لنفسك شرعية نضالية من شعاراتها، فلا تذهب بعيدا. دمشق مكمن كل التجارب.

لقد عاملت نخبة العسكرتاريا في الجزائر المغرب ببرود القواعد الدبلوماسية، لتقول إنها لا تريد أن تلمّ الشمل مع المغرب. يمكنها أن تلمّ الشمل مع تركيا وإيران ضد مصالح كل دول المنطقة، إلا أنها لن تترجل من بغلة العداوة والبغضاء مع المغرب.

تثير هذه العداوة الكثير من الاستغراب. الكثير من الأسئلة. الكثير من أسباب الحيرة والذهول. ولكن شمل أجوبتها يجتمع في جواب واحد: (ماذا كنا سنفعل لو لم نتخذ من المغرب عدوا؟ ما هو الشغل الذي سننشغل به؟ الآن لدينا هذا العدو. ونشغل مجتمعنا به. والكل مرتاح ومستفيد. الجزائريون ينفّسون متاعب ما يتعرضون له من مظالم ضد “العدو” لا ضدنا. ونحن “نتوسع” بما توسّعنا بها من نفوذ وسلطة ومنافع). هذه هي الفكرة. هذا هو باطنها الحقيقي.

وجودُ عدوّ، مفيد. حتى ليصح القول: “إن لم نجده عليها لاخترعناه”.

ولكن الجزائر جزائرنا نحن. إنها جزائر العروبة، لا جزائر التواطؤ مع تركيا وإيران. إنها جزائر مصر والعراق والمغرب، لا جزائر الطغاة. إنها جزائر التضامن والفداء الأخوي الذي جعل التحرر من ربقة الاستعمار هدفا مشتركا لكل عربي في الجزائر، ولكل جزائري نسج روابط مع إخوة له في العالم العربي.

هذه الجزائر جديرة بأن تنعقد على أرضها قمة عربية تلمّ الشمل. وما ذلك بيوم بعيد.

إنها جزائرنا نحن. وهي تعرف أن النفاق والبغضاء سلعة لا تدوم. ثلاثة أرباع الجزائريين الذين رفضوا التواطؤ مع نخبة التواطؤ، هم ما تملكه العروبة في هذه الأرض.

يوم تُفلس البغضاء، لن تعود “القواعد الدبلوماسية” هي معيار التلاقي بين أشقاء الوطن الواحد. الحضن الحميم والقبلات على الخدين والتسامح المخلص وتوثيق الروابط وبناء المصالح المشتركة، هو المعيار.

الذين ينتظرون تلك الجزائر، يغنون: “يا اللي ماشين ليها غادي.. وصّوا يتهلوا في بلادي”.