د. أنور محمد موسى يكتب:

الوطن العربي الإفتراضي.. مساهمة عصرية نحو نهضة عربية شاملة

"مبادرة الوطن العربي الإفتراضي" تستند على أنّ الوضع الجيوسياسي للمنطقة العربية يثبت من الناحية الواقعية عدم إمكانية تحقيق الاستقرار فيها، و بالتالى النهضة الشاملة و الدفاع عن مقدراتها و صيانة حقوق و كرامة شعبها، إلاّ بوجود كيان متّحد (اتحاد فيدرالي كامل). و لهذا نجد القوى العالمية-التي تدرك ذلك جيداً- تعمل كل جهدها لعرقلة قيام إتحاد عربي على أسس ثابتة. و حيث أنّ الوضع العربي الحالى و المفكّك لا يستطيع مواجهة التحديات المصيرية للأمة العربية، تؤمن المبادرة أنّه اذا اقتنع الشعب العربي بضرورة الإتحاد -بصورة عقلانية – فلن تستطيع أي قوة خارجية منعه من تحقيق ذلك، و بالتالى امتلاك القدرة على مواجهة التحديات! و حيث أنّ دولاً مختلفة الأعراق و اللغات و الثقافات تسعى لإنشاء تكتلات جامعة من أجل مزيد من القوة، نجد أنّ العالم العربي يجمعه تاريخ مشترك و لغة واحدة و قومية جامعة  ووحدة جغرافية متواصلة و دين واحد (في معظمه). و لذلك ترتكز المبادرة على حقيقة أنّ العرب أولى بأن يكوّنوا وطنا موحداً من كثير من الإتحادات العالمية مثل الهند و الصين و روسيا، التي يتكون كلٌّ منها من العديد من القوميات و الثقافات و الأديان و اللغات المختلفة و عدد سكان بعضهم أضعاف سكان الوطن العربي و مع ذلك أوطان موحدة!

لا يقتصر دور المبادرة على هدف إنجاز الوحدة المأمولة بصورة فعلية على الأرض فقط، و إنما تهتم أيضاً بطبيعة و مستقبل هذا الكيان النّاشىء. و لذلك فهي تعمل على تطوير نموذج لما سيبدو عليه الوطن العربي في المستقبل “النموذج المستقبلي للوطن العربي” بحيث يجاري التطورات المتسارعة في العالم. وطنٌ يُرسم مستقبله كما يأمل مواطنوه، ليس فقط من ناحية توفّر أساسيات الحياة الكريمة للمواطن العربي، و إنما أيضا توفّر سبل و إمكانات الابداع و الطموح و تحقيق الذات. و حتى إذا كان هذا النموذج المأمول لا يمكن تطبيقه في الوقت الحاضر أو في المستقبل المنظور بسبب الظروف الحالية، فمن المنطقي أن يأمل الإنسان العربي في الوصول إليه في المستقبل بشكل تدريجي بعد أن يتمكن من تغيير ظروفه إلى الأفضل.

فيما يلي تُوجز المبادرة البنود الستّة التالية كأهم أساسيات النهضة العربية الشاملة- كما تراها:

أساسيات النهضة الشاملة:

1.   الرؤية و الرسالة

حرصت المبادرة على طرح مبدئي لرؤية جامعة تتمثّل في التطلّع: ” نحو وطن عربي موحّد ومزدهر، يحفظ كرامة مواطنيه و يبنى مستقبله وفقا لمصالحهم “

و كذلك اعداد رسالة  تقوم على: “ترسيخ حلم الوطن العربي الموحّد في عقول أبنائه عبر برنامج اقناع مبني على الحقائق الملموسة من أجل الوصول للتجسيد الطوعي على كامل التراب العربي”

مهمة الرسالة- بالطبع- هي العمل على تحقيق الرؤية المنشودة. و من أجل ذلك، سيقوم البرلمان الافتراضي-بتوجيه من مجلس الحكماء- بتشكيل لجان استشارية مختصة للاشراف على تصميم خمس برامج عملية لتطبيق بنود الرسالة، ثلاثة منها تتعامل مع الحاضر و في محورها “برنامج الاقناع المبني على الحقائق الملموسة ” مسنودا  “بنظام المحاكاة الالكترونية لولايات الوطن العربي الحالية”  و “وحدة جمع ونشر النتائج”. و اثنتان تُحضّر للمستقبل بدءاً من “برنامج التحول المنهجي و السلس نحو الإتحاد الفيدرالي” و انتهاءً “بالنموذج المستقبلي للوطن العربي”.

2.   الإستقرار

تمثّل المنطقة العربية من الناحية الجغرافية ملتقى ثلاث قارات، و تعتبر أيضا ملتقى الحضارات القديمة الرئيسية، و من الناحية الدينية تمثّل منبع الأديان السماوية. أمّا من الناحية الجيوسياسية فان وجود الكيان الصهيوني، الذي زُرع بقصد تفتيت العالم العربي، يُحتّم وجود كيان عربي متّحد في مواجهته!  و على ذلك وما سبق- استندت مبادرة الوطن العربي الإفتراضي في اثبات عدم إمكانية تحقيق الاستقرار فيها، و بالتالى النهضة الشاملة ، إلاّ بوجود الكيان العربي المتّحد (الولايات العربية المتحدة). معتبرةً أن البناء في العقول يمثل أكثر الأبنية ثباتا و استقراراً، تهتم المبادرة ببناء مفهوم الوطن العربي الموحّد في عقول الشعب العربي كمرحلة أولى، و على الشعب نفسه أن يقرر متى و كيف سيجسّد هذا البناء على أرض الواقع بطريقة حضارية هادئة بعيدة عن التسرع و العشوائية على ضوء برنامج التحول المنهجي.

المبادرة تستهدف القاعدة الصلبة التي تقف عليها أعمدة التفرّق و الإنقسام العربي منذ اتفاقية “سايكس-بيكو”  و التي تتمثّل في أمرين أولهما غياب- أو تغييب- الوعي الكامل- عند الإنسان العربي- بالحقائق الجيوسياسية للوطن العربي، و ثانيهما الإحباط المتراكم عند المواطن العربي بسبب فشل محاولات سابقة- كانت متسرعة و ارتجالية- للوحدة العربية حتى أصابه كثير من اليأس من امكانية تحقيقها! الهدف الأساسي التي تقوم عليه المبادرة، إذن، هي معالجة هذين الأمرين -عبر مخاطبة العقل الجمعي العربي بواسطة “برنامج الإقناع” من خلال كشف و بيان الحقائق الخاصة بالوضع العربي من كل الجوانب و بشكل علمي منهجي و ملموس[1]، تثبت الحاجة البديهية و الملحة لوجود الكيان العربي الموحّد بشكل عقلاني. و كذلك إنتشال عقل الإنسان العربي من حالة الإحباط  عبر الدعوة- و الحثّ- الى التفكير، حيث أن مجرد بدء المرء في التفكير الجدي في مشكلة ما، هو أول الطريق الصحيح و الآمن للوصول الى التغيير الإيجابي. و بالتالي ستضعف تدريجيا القاعدة الصلبة التي تقف عليها أعمدة التفرّق و الإنقسام العربي، و ستصبح رخوة، و ما تلبث أن تبدأ هذة الأعمدة بالسقوط بصورة ذاتية! و ستنهار تدريجياً كل ركائز و شواهد الإنقسام العربي، و حينها سيتجه الشعب العربي بصورة طوعية لتجسيد و تطبيق الإتحاد فعلياً على الأرض. وحتى يكون هذا التوجّه آمناً و غير عشوائي، ستدعمه المبادرة عبر اتّخاذ خطوات منهجية وتدريجية و محسوبة بدقة  للتحوّل في جميع المجالات الإقتصادية و السياسية و مؤسسات الحكم و القضاء و التشريع و غيرها بصورة سلسة عبر برنامج “التحوّل المنهجي و السلس نحو الإتحاد الفيدرالي”. و سيقوم بهذا الأمر خبراء في كافة المجالات ذات الصلة، معتمدين على مخرجات “نظام محاكاة ذكية لولايات الوطن العربي”، تحت إشراف مجلس الحكماء.

3.   بناء الإنسان

المبادرة تخاطب اللّبنة الأولى في العالم العربي، و هي الإنسان العربي نفسه، و بالتالى تؤمن أنّ الأساس الأول للنهضة هو بناء الإنسان ذاته عبر استنهاض طاقاته منذ الطفولة حتى اكتمال مسار العمر! و هنا يبرز دور التعليم و التعلّم، اذ لا نهضة شاملة -سواء اقتصادية أو صناعية أو ثقافية أو غيرها من صور النهضة- إلاّ  في استثمار الفرد وتأهيله عبر مناهج علمية حديثة. و ذلك مع التركيز على بناء المُعلّم و اكرامه بما يستحق من مستوى معيشي لائق كقاعدة أساسية لبناء الأجيال القادمة.

يخطيء من يعتقد أنّ وجود الثروات الطبيعية مثل البترول و المعادن يمكن أن تمثّل أساسا من أساسيات نهضة الشعوب! بل على العكس، ممكن ان تكوت عامل تراخٍ و تكاسل! انظر الى كوريا الجنوبية حيث كانت قبل 50 عاماً من أفقر دول العالم واليوم هي خامس أكبر إقتصاد في العالم مع انها ﻻ تملك أي موارد طبيعية إﻻ العنصر البشري، التي اهتمت ببنائه، عبر جودة التعليم، كسبب أول للتقدم اﻹقتصادي والتقني. وانظر إلى سنغافورة التي  ظهر رئيسها “لي كوان يو”  أمام الإعلام وهو يبكي بعد قرار ماليزيا بالانفصال والتخلي عنها، حيث كانت تُصنّف آنذاك كواحدة من أخطر الأماكن في العالم لكثرة الجرائم فيها. هذا بالاضافة للمعاناة الكبرى من قلة وشحة المياه فيها، و شوارعها المليئة بالمخلفات الطبيعية والضارة ومخلفات الصرف الصحي. وبرغم  احتوائها على نسيج سكاني متعدد الأعراق، و مزيج شديد التنوع من الأديان يضم المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين والطاويين وغيرها، إلاّ أنّ رئيسها استطاع أن يبني نهضة اقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم (رابع أهم مركز مالي في العالم و من أنظف المدن في العالم) كما كان يحلم. ذلك تحقق بعدما اعتمدت سياسته في الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتطوير المستوى الانساني والصناعي بمجملة. ولنا أيضا في تجارب ألمانيا و اليابان أمثلة حيّة على الإرادة، حيث لا تملك البلدان الموارد الطبيعية، و كلاهما تعرض للتدمير الشامل في الحرب العالمية الثانية، و مع ذلك استطاعتا تحقيق نهضة شاملة اعجازية بالاعتماد على عقول و ارادة مواطنيها!

وبالاضافة لبناء الإنسان العربي فوق التراب العربي، لا تغفل المبادرة أهمية الكفاءات العربية- التي اضطرت للهجرة الى  الخارج- من حيث الاستفادة من خبراتهم و توفير كافة الإمكانات والتسهيلات لمن يرغب بالعودة منهم للوطن العربي الموحّد  للمساهمة في بناءه و تطوّره.

4.   اقامة العدل

حرصت المبادرة على تضمين عبارة ” اقامة العدل ” في ديباجة الدستور المؤقت للوطن العربي الافتراضي لأنّ العدل هو  أساس قوة الدولة. و يجدر التنويه هنا أنّ اقامة العدل يُقصد به العدل الداخلي، او عدل الدولة تجاه مواطنيها و ليس العدل تجاه الدول الأخرى أو المواطنين الأجانب! لا يوجد عدل في السياسات الخارجية للدول إنّما مصالح، و لا توجد قوة للعدل، للأسف، إنّما يوجد عدل القوة، تماما كما لا توجد قوة الحق و إنّما حق القوة!

الدولة تكون قوية بقدر قوة و شفافية و استقلالية الجهاز القضائي التابع لها! ومن تاريخنا المضيء دروس نستشفّها من الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، عندما أطفأ المصباح عند استضافة أحد الرجال بحجة أنّ الزيت المضيء من بيت مال المسلمين (مال عام) و لا يصح تبذيره في أمر خاص. قد يقول قائل و ماذا يُضير المال العام من فقدان قليلا من زيت الاضاءة؟ طبعا هذا هو المبدأ، و كما يقول المثل “من يسرق بيضةً يسرق جملاً” و من يسمح بالتغاضي عن قليل يفتح المجال للتغاضي عن الكثير! و عندما نتكلم عن العدل تتوجب الاشارة ايضا الى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الذي اقام العدل على ابنه مقابل شخص فقير من عامة الناس. و في عصرنا الحديث نضطر، للأسف، لإعطاء أمثلة  من دول أخرى تحرص على أن تكون قوية بعدلها تجاه مواطنيها.  ففي دول قوية و غنيّة- لا يتسع المقال لحصر أمثلتها- لا ينجو من هو في أعلى سلم السلطة من المساءلة و الحساب و الإدانة و العقاب حسب القانون.    طبعا هذه الدول تدرك جيداً أنّ اقامة العدل داخل دولها و تجاه مواطنيها هو من أهم أسباب قوتها، و هي بالطبع لا تهتم بالعدل تجاه الآخرين، بل على العكس يمكن أن تمارس بحقهم أبشع أنواع الظلم و الوحشية!

5.   البحث والتطوير والصناعات الحديثة

المبادرة ترى أنّ مختبرات البحث و التطوير في كافة المجالات هي من أهم أساسيات النهضة الشاملة، مما يؤدي لظهور الصناعات المتطورة في كافة المجالات. و هذا يضمن الاكتفاء الذاتي للضروريات من غذاء و دواء و علاج بالإضافة لمستلزمات أنظمة الدفاع المختلفة، و بما يسهم في رفع وتيرة الصادرات و زيادة الدخل. يخطيء من يظن أنّ اقامة الأبنية الشاهقة أو القصور  من مظاهر التطوّر، خاصة عندما يكون بناؤها قد تم بخبرات خارجية! و المبادرة تدرك أيضا أنّ بناء الطرق الحديثة و الجسور و غيرها من مستلزمات الحياة و التنقل هي من العوامل المساعدة للنهضة و ليست من أساسياتها. انّما أساسيات النهضة هي بناء المصانع الحديثة ذات التقنيات العالية و المنتجة بمقاييس عالمية منافسة للسوق المحلى و التصدير. و كذلك رفع نسبة البحث العلمي من الدخل القومي لتتماشى مع متطلبات العصر.

6.   ثقافة التبادل السلمي للسلطات و نبذ الميل للعنف و العنصرية

عبر “النموذج المستقبلي للوطن العربي”، تهدف المبادرة الى أن تكون الولايات العربية المتحدة- المأمولة- دولة مؤسسات يتم فيها تبادل سلس و سلمي للسلطات كافة عبر الطرق الديمقراطية. و من أجل الوصول لهذا الهدف، تركّز المبادرة، ليس فقط على  بناء ثقافة الديمقراطية فحسب، و انما أيضا على النشر الممنهج و الشامل لثقافة التسامح  وقبول و احترام الآخر على مستوى الأفراد في الوطن العربي و نبذ الميل للعنف و العنصرية بكافة أشكالها. و تسعى لأن يتمتع مواطنو الولايات العربية المتحدة بكافة الحقوق و الواجبات و المساواة التامة سواء كانوا عربا أو أقليّات. ثقافة الديمقراطية و ممارستها تحتاج إلى بلورة خطة منهجية تبدأ ضمن التعليم  الأساسي للأطفال و تستمر خلال كافة مراحل التعليم العالي و المستمر حتى نصل لمستوى معقول و مقبول منها. و أمامنا مثلٌ حديث من النظام الديمقراطي (الداخلي) البريطاني الذي أجبر رئيسة وزراء على الاستقالة من منصبها بعد 45 يوما فقط من توليها المنصب بحجة أنها فشلت في ادارة البلاد!