د. أنور محمد موسى يكتب لـ(اليوم الثامن):
العصر الرقمي الجديد و العالم العربي.. نظرة مستقبلية ، و ناقوس خطر
قريباً جداً سيصبح معظم سكان الأرض متّصلين بالإنترنت، وستصبح أجيال الاتصالات الحديثة متاحة ليستفيد منها الجميع و ليس فقط سكان شمال و غرب الكرة الارضية. هذه الثورة المعلوماتية والتجمعات الرقمية الناشئة منها- و التي يمكن أن يطلق عليها "الممالك أو الدول الإفتراضية"- ستؤدي الى تراجع جزئي لما يسمى بالسيادة الوطنية للدول الحقيقية على أراضيها. و بذلك تكون السيادة القادمة مقسّمة ما بين الجغرافيا السياسية و الجغرافيا الافتراضية بما ينذر بنهاية السيادة الوطنية الكاملة باتجاه الدول العالمية الإفتراضية أو الرقمية. و هذا ما أكّده كلٌّ من إريك شميدت و جاريد كوين في كتابهما “العصر الرقمي الجديد – إعادة تشكيل مستقبل الأفراد والأمم والأعمال” [1] بأنّ الدول وخلال السنوات القادمة ستخضع فيها سيادتها الوطنية لعوالم و ضربات الممالك الأفتراضية.
كل دولة يتعين عليها ممارسة طريقتين مختلفتين من سياساتها المحلية و الخارجية، تركز إحداهما على العالم الحقيقي بينما تُخصّص الثانية للعالم الإفتراضي. و قد تبدو هذه السياسات متضاربة، فبينما تستخدم الحكومات اليد الغليظة في العالم الحقيقي للدولة قد تحافظ على يدٍ حريرية في العالم الافتراضي أو العكس. الحكومات تفضل بالطبع العالم الحقيقي بما تملكه من ادوات القوة و القمع بينما تفضل الشعوب العالم الإفتراضي بما يوفره لها من فضاءات و اسعة من الحرية و التواصل و المراوغة. و ستبقى هذه المعادلة قائمة ما بقى الإنترنت و الفضاء الإفتراضي... و هل لن يبقى!
"حضارة العالم الحقيقي" التي تطورت عبر آلاف السنين ستنافسها "حضارة العالم الافتراضي" الناشئة، و في طور التشكّل. هاتان الحضارتان مجبورتان- و لا مناص- على التعايش و التنافس و ربما التآمر على بعضهماالبعض. ستؤثر كلُ منهما على الأخرى ، و ربما نتوقع تأثيراً أكبر للعالم الإفتراضي على العالم الحقيقي. و سيتحدد شكل عالمنا الكلي (الحقيقي و الإفتراضي) بناءً على صيغة التوازن الذي ستتوصلان اليه، ما بين التكامل في العديد من المجالات و التصادم في مناطق معينة. و سيؤثّر ذلك- بالطبع- على سلوك الجميع من أفراد و جماعات و شركات و منظمات و حكومات مع هذا الواقع الجديد الذي يفرض العيش و التنافس في عالميْن. و سيتوجب على كل شخص أو كيان معين إكتشاف و صياغة معادلته الخاصة التي تحقق مصالحه في العالم الكلي.
بالنسبة للأفراد فسيعني تواجدهم في العالم الكلي حيازة هويتين: الأولى مادية في العالم الحقيقي و الثانية إفتراضية في العالم الإفتراضي. و ستطغي كل هوية على الأخرى حسب أولويات الفرد و مصالحه. و بينما يمكن بسهولة- نسبية- التحقّق من أي تزوير قد يحدث- بقصد أو من دونه- على الهوية المادية في العالم الحقيقي، فإن التحقّق من ذلك في العالم الإفتراضي يعتبر تحديا حقيقياً و صعباً! قد يكون لكل فرد أو كيان هوايا إفتراضية مختلفة و لا حصر لها على حسب نشاطه في العالم الإفتراضي، و لا شك أنّ ذلك يشكّل إحدى التحديات الكبري التي تحتاج للمعالجة.
ستحدث التغييرات التاريخية بوتيرة أسرع و سيتأّثّر بها كل شخص في العالم الكلي- سواء كان من أكثر الناس نفوذاً أو من أقلهم. سيتمكن الجميع من الوصول الى موارد لا تنضب من المعلومات التي تروي ظمأهم المعرفي و العلمي بصورة لم تكن لتتوفر لهم في السابق ، وسيتمتع جيل العصر الرقمي الجديد بسلطة لم تتوفر لأي جيل سبقه من البشر. و سنتوقف عن وصف البدء بالمشاريع طويلة الأمد بالقول "بأنها الخطوة الأولى في طريق الألف ميل". الطريق ستكون أقصر من ذلك بكثير لما للفضاء الافتراضي من إمكانات هائلة في سرعة إنبات و نمو، و إيصال الأفكار. ما أنتجه الفكر البشري منذ فجر الحضارة حتى يومنا هذا سيتم إنتاج أضعافه من الأفكار والإبداعات الجديدة في فترات قصيرة نسبياً. ذلك بسبب توقّع إنضمام مليارات أخرى من البشر للفضاء الإفتراضي عبر اتساع دائرة إنتشار الانترنت و سهولة الاتصال به في جنوب و شرق الكرة الارضية.
لكن يجب الإنتباه أن للعالم الإفتراضي جانيه المظلم أيضا،ً حيث ستظل مقارنة محاسنه ومساوئه على البشر و أيهما أكبر موضع تساؤل. و لا يملك أحد- سواء كان فرداً أو كياناً أو دولة- في العصر الرقمي الجديد ترَف الإختيار ما بين الإنضمام للعالم الإفتراضي أم عدمه! عالمٌ تتصارع فيه الجيوش الافتراضية وتلعب دوراً لا يقل أهمية عن دور مثيلاتها التقليدية في العالم الحقيقي. ستشن دول صغيرة هجمات إفتراضية على بلدان ما كانت تحلم باستهدافها عسكريا أو مجرد رفع رأسها أمامها. و الهجمات السايبرية المتنوعة كالتجسس الرقمي و التخريب و التسلل و غيرها قد تشل المفاصل الأساسية و الحيوية للدول الحقيقية أو قد تسيطر عليها. و يمكن لها أن تقطع شبكات الكهرباء و تلوّث المياه و تخرج قطارات مملوءة بالركاب أو حتى بمواد خطرة عن مسارها. كما يمكن لها أن تضرب أسواق الأسهم أو أن تقوم بإختراق قواعدالبيانات الحساسة للدولة الحقيقية او للشركات وسرقتها أو تدميرها.
في عصرنا الرقمي الجديد، يتوجب تدريس تقافة الأمن و الخصوصية الرقمية و كيفية التحكم بإعداداتها في المراحل المدرسية المبكّرة. و يتوجب أيضاً إعطاء الطلاب شرحاً وافياً لمحاذير و مخاطر العالم الأفتراضي مع أمثلة من الحياة الواقعية في حال لم يحافظوا على خصوصياتهم و أمنهم. ولكن هل سيستطيع الانسان السيطرة على العالم الإفتراضي و منع الأمور من الإفلات بإتجاهٍ معاكسٍ للمصلحة البشرية؟ هنا يُطرح التساؤل الجدي مثلما طُرح بقوة عن أمكانية إفلات الروبوتات المبرمجة بتقنيات الذكاء الإصطناعي الحديثة عن السيطرة البشرية في المستقبل! هنا يجب العمل على إبقاء اليد البشرية مُشرعةً لتفصل بين إستخدامات الخير و الشر!
ليس ما ذُكر أعلاه للعلم فقط، و لن يكون له معنى- أو التأثير المطلوب- اذا لم تُتّخذ خطوات عملية للتحضير له و مواجهته في العصر الرقمي العربي. و لذلك انطلقت مبادرة "الوطن العربي الإفتراضي" [2] و التي تمثّل مساراً عملياً مبنيّاً على مراحل للتنفيذ مع جدول زمني. مبادرة الوطن العربي الإفتراضي في العصر الرقمي الجديد لها هدفين مركزيّين: الأول مرحلي وهو بناء الوطن العربي الموحّد في عقول أبنائه و من ثمّ تجسيده كواقع على الأرض [3]، و الثاني مستمر و متجدّد يتمثّل في النموذج المستقبلي للوطن العربي في العالم الكلّي (بفرعيه الحقيقي و الإفتراضي). النموذج المستقبلي في العالم الحقيقي تمّ إيجاز بعض أهم أساسياته في [4]. أمّا النموذج المستقبلي في العالم الإفتراضي فيمثّل تحدياً اضافياً، يفرضه العصر الرقمي الجديد بكل جوانبه الإيجابية و السلبية، و يمكن إيجاز بعض أهم بنوده كما يلي:
- كما هو الحال في النموذج المستقبلي للوطن العربي في العالم الحقيقي و الذي يفرض وجود كيان عربي حقيقي موحّد نظراّ للحقائق التي تتميّز بها الأرض العربية كملتقى لثلاث قارات- العالم القديم- و كخازنة لثروات طبيعية هامة و متنوعة و كنقطة تقاطع للحضارات العالمية الرئيسية القديمة، و كمهد للأديان السماوية، ما جعلها "بؤرة كامنة لصراع الحضارات"! و نظراً لأن العلاقات البينيّة بين الدول في العالم الكلي (الحقيقي والإفتراضي) هي مزيج من المصالح و التآمر- مهما كانت الدول حليفة في الظاهر- فإنه لا عجب أن يكون التآمر على المنطقة العربية- في العالم الحقيقي- بصورة أكثر تركيزا. و بما أنّ العالم الإفتراضي هو عبارة عن كيانات موازية للعالم الحقيقي، فانها تعكس حقائقه المميزه. و لذلك فإنّ نفس هذه الحقائق تفرض وجود كيان إفتراضي عربي موحّد كنموذج مستقبلي للوطن العربي في العالم الإفتراضي. الكيانات الإفتراضية العربية المشتّتة و التابعة لأجندات غير منسّقة و التي تتبع كل دولة عربية بهيئتها المتفرقة لن تستطيع مواجهة التحديات العالمية الضخمة في عصر التجمعات العالمية الكبرى- أُنظر إلى الإتحاد الأوربي كمثال. و يجب الإنتباه إلى أنّ التآمر في العلاقات البينيّة بين الكيانات الإفتراضية في العالم الإفتراضي سيكون أكبر بكثير- يكاد يكون هو الطاغي- من عنصر المصالح، و أكبر أيضا مما هو في العالم الحقيقي.
- العصر الرقمي الجديد هو عصرُ تتصارع فيه الجيوش الإفتراضية وتلعب دوراً لا يقل أهمية عن دور مثيلاتها التقليدية في العالم الحقيقي. و كما هو الحال بالنسبة إلى النموذج المستقبلي للوطن العربي في العالم الحقيقي الذي يفرض وجود جيش عسكري موحّد (متفرّع إلى قطاعات مختلفة من الأذرع العسكرية)، فإنّ النموذج المستقبلي للوطن العربي في العالم الإفتراضي يفرض أيضا وجود جيش إفتراضي موحّد لمواجهة الهجمات السايبرية المتنوعة (متفرّع إلى قطاعات مختلفة من الأذرع الإلكترونية حسب نوعية المواجهات و التحديات).
- يتوجب على كل مواطن في العالم العربي الكلّي حيازة هويتين: الأولى مادية في العالم العربي الحقيقي و الثانية إفتراضية في العالم العربي الإفتراضي. الهوية الإفتراضية ربما يمكن استنساخها لعدة هوايا كلٌ حسب التجمّع الرقمي الذي يرغب بالولوج إليه، مما يشكّل تحديا" مستداماً يُفرض مواجهته إلى جانب مواجهة، و التعامل مع، كم كبير و متنوّع من التزوير بأشكال مختلفة و في مجالاتٍ متعددة.
- ربما أكبر الأخطار التي يمثّلها العصر الرقمي الجديد، و الذي بدأه الغرب العالمي، هو قدرته على الولوج بسهولة إلى عقول و إحساس المواطنين في كافة انحاء العالم. و من ثمّ نشر تقافته و أفكاره الخاصة و التي بالتأكيد يتعارض بعضها مع ثقافات و أفكار و عادات و قيَم كثير منهم. وما يخصّنا نحن في العالم العربي فإن ذلك من شأنه تدمير كثير من عاداتنا و تقاليدنا و قيَمنا العربية و الإسلامية التي تمثّل ركائز مجتمعاتنا! هنا يُدَق ناقوس الخطر. فممالك العالم الإفتراضي الغربي- و الأمريكي على وجه الخصوص- مثل فيسبوك و انستغرام (ميتافيرس) و تويتر و يوتيوب و غيرها أصبحت تسيطر بشكل كبير على عقول الكثير من أبنائنا وبناتنا و تنشر ما تراه من ثقافات و قيَم غريبة عنا و بعضها يتعارض بشكل كبير مع ثقافاتنا و قيمنا. و مع ذلك لم نجد أي تحرك يُذكر من حكومات الدول العربية لمواجهة هذا الغزو الثقافي المَهول أو حتى الحد من تأثيره! و لذلك فإن من أهم مهام النموذج المستقبلي للوطن العربي في العالم الإفتراضي هو بناء خطة منهجية متكاملة لإنشاء وسائل تواصل عربية متنوعة (كيانات إفتراضية تمثّل أذرع تابعة للوطن العربي الإفتراضي) ومُتَحكّم بها بشكل تراعي التقاليد و القيَم العربية و تحافظ على أجيالنا الحالية و المستقبلية. هذا لا يعني السعي لغلق النطاق العربي و عزله عما يجري في أماكن أخرى من العالم، و لكن إحداث توازن بين فضاء إفتراضي متاح للجميع على قدم المساواة و بين المحافظة على الخصوصيات المحلية.
- لا تقتصر أهمية و ضرورة إنشاء وسائل تواصل عربية للمحافظة على التقاليد و القيم العربية و الإسلامية لمجتمعاتنا فحسب، و لكن أيضا لمواجهة التحيّز الذي تمارسه الممالك الإفتراضية الغربية تجاه القضايا و المصالح العربية و تحكّمها في المحتويات المنشورة لصالح أعداء و خصوم الأمة العربية. و لا يفتقر العالم العربي- بالطبع- للكفاءات القادرة على إنجاز ذلك و لا إلى التمويل اللّازم. و لقد شاهد العالم كيف أن تضارب المصالح- حتى داخل الدولة نفسها- أدّى إلى أن تقوم كيانات إفتراضية عملاقة كفيسبوك و تويتر و غوغل بطرد أقوى رئيس دولة في العالم (الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب) [5] من ممالكها، مما أدّى لقيامه بإنشاء كيانه الإفتراضي الخاص.
- الأنظمة العربية الحاكمة على قدرٍ من الدّراية و الذكاء يسمح لها بالإستنتاج أنّ الوضع العربي لا يمكن أن يستمر بشكله الحالي في العصر الرقمي الجديد، و تعرف أنّه من الأفضل لها بل و يتوجّب عليها أن تجاري التطورات المتسارعة في العالم الكلّي (الحقيقي و الإفتراضي). و الأنظمة تدرك جيداً أنّ المواطن العربي في جيل العصر الرقمي الجديد سيتمتع بقوة و قدرة على المراوغة لم تعهدها من قبل في الأجيال السابقة التي تعودت على ترويضها. و كونها- بالطبع- جزءاً من الشعب العربي، و تعرف أنَ التغيير حتمي، فمن المنطق أن يكون بالتوافق و التنسيق التام مع رغبة الشعب ، و الاّ مزيدٌ من التشتت و الإندثار- لا سمح الله تعالى.
- التطورات المثيرة و المقلقة التي قد يحملها مستقبل العصر الرقمي الجديد قد يترك البشر بأسئلة أكثر من الإجابات. ولا يزعم كاتب المقال إمتلاكه الإجابات الكاملة لكثير من الأسئلة في الوقت الحاضر، و ليس مطلوب منّا ذلك! ولكن هذه هي الفكرة – نحن في أفضل حالاتنا عندما نسأل "كيف ذلك و ما التالي؟"، ذلك يُحفّز التفكير! و هكذا تأتي الإجابات تدريجياً و في الوقت الناسب.