فاروق يوسف يكتب:

مَن يسجل الهدف الأخير؟

مونديال قطر هو بمثابة هدنة تقع ما بين المرء وبين الأخبار السيئة. فمَن لا يتابع أخبار الكرة لا بد أن تغزوه من غير أن يقوى على صدها. الكرة حاضرة في المنزل والعمل والمقهى والشارع.

لقد انتصر ميسي بتواضعه على بوتين بسلطانه. كما أن خامنئي لم يعلق على هزيمة فريقه أمام إنجلترا، والذي وقف صامتا حين كان عليه أن يردد نشيد الجمهورية الإسلامية وانتقل الأمير محمد بن سلمان من تحدي الطاقة إلى الوقوف في صفوف المتفرجين الذين ينتظرون المفاجآت.

الكرة لا دين لها. كما أنها لا تتبع نهجا عقائديا. والكرة تقع خارج صراع الطبقات ولا تؤثر في دورانها الأزمات الاقتصادية التي تلف الأرض بكآبة توقعاتها.

تجتمع الأمم في لحظة واحدة هي زمن لا يمكن تبديده إلا من أجل معرفة ما يجري في مكان بعينه. تلك نقطة تحول حين لا تشهد الدوحة مفاوضات بين عدوّين كما هو حال الولايات المتحدة وحركة طالبان.

ربما تساءل الكثيرون “أين تقع كوستاريكا بعد أن هزم الفريق الإسباني فريقها بسبعة أهداف؟” ولكن قبل ذلك تساءل الكثيرون “أين تقع الدوحة؟” تطل بنا كرة القدم وهي تصنع تاريخا على الجغرافيا بطريقة ناعمة لا تنطوي على أيّ موعظة جاهزة.

في خضم التنافس لا أحد يفكر في أن هزيمة فريقه ستقصم ظهره وتهدد مصيره. فما من عدوّ يخطط للإضرار به وما من مؤامرة أو مكيدة ليتحاشى الوقوع في حبائلها بالرغم من أن مفردة “الخصم” لا تفارق الألسن.

الكرة مجنونة، تسعى أقدام اللاعبين إلى أن تُكسبها شيئا من العقل حين يضعونها في المرمى. حينئذ يكشف البشر عن جنونهم. سيكون البشر سعداء لو أنهم استثمروا جنونهم في الكرة بدلا من استثماره في الحروب. لذلك يكره العقائديون المتشددون الكرة. للكرة مزاجها الذي لا ينسجم مع العقائد الشمولية. ذلك المزاج يمكن اختصاره بكلمة واحدة هي “الحرية”.

الكرة تعلّم الحرية. الرياضة بكل أنواعها تحرر الروح مثلما تضفي طاقة خلاقة على الجسد الذي يحارب أمراضا عديدة من خلالها.

من غير أدوية يمكن أن يقي الإنسان نفسه من الأمراض من خلال ممارسة الرياضة. تلك مناسبة لكي يعيد الإنسان التفكير في نظام حياته. ولأن البشر يجمعون على حبّ الرياضة بغض النظر عما إذا كانوا يمارسونها أو لا فإن أحدا منهم لا يجرؤ على الإعلان عن رغبته في عقلنة الحماسة الكروية التي تصل إلى شد الأعصاب وانفلاتها وهو ما يقود أحيانا إلى وقوع كوارث جماعية.

جنون الكرة لا يخيف الدوحة وحدها، بل كل المدن التي تشهد منافسات كروية ذات مستوى عالمي. عدد الكاميرات التي انتشرت في الدوحة هو مصدر اطمئنان أمني للجمهور القادم من مختلف جهات الأرض. لن يفقد أحد حقيبته ولن يتعرض لاعتداء مّا وإذا ما ساءت حالته الصحية فإن فرق الإنقاذ ستكون قريبة منه.

كل الدول التي عُرفت شعوبها بهوس كرة القدم تتخذ إجراءات استباقية لكي لا يأخذ جنون الكرة طريقه إلى الواقع. فللكرة خيالها الذي يصنع واقعا مجاورا. ننسى في خضم اهتمامنا بالصورة أن هناك أموالا هائلة كانت قد وضعت في مكاتب ومواقع المراهنات يمكن أن تتبخر في أيّ لحظة وتذهب إلى جيوب أصحاب الحظوظ السعيدة. لذلك تبقى العيون المفتوحة عبر شهر من الزمن في انتظار الهدف الأخير.

سيكون اللاعب الذي يسجل ذلك الهدف سعيد الحظ هو الآخر. سيكون بطلا لأربع سنوات على الأقل. وسيسجل اسمه في تاريخ اللعبة حتى لو كان هدفه باهتا أو وقع عن طريق الصدفة.

ينام البشر العاديون من أمثالي من غير قلق ولا تهتز رموشهم مع اهتزاز شبكة الهدف ولا يفزون من نومهم على صيحات الجمهور التي تلف الكرة التي تعلن صفارة الحكم أنها الأخيرة كما لو أنها الرصاصة التي تعلن نهاية حرب عالمية.

ستعود البشرية بعد الهدف الأخير إلى سابق عهدها وتعرف الفرق بين جنون الكرة وجنون البشر الذي أطّرته السياسة بعقلانيتها الزائفة. فالكرة لم تكذب إلا مرات قليلة ومنها ذلك الهدف الذي سجله مارادونا عام 1986 بيده وكان هدفا تاريخيا بسبب ما انطوى عليه من تقنية فنية لا يمكن أن تتكرر بعد أن تطوّرت أجهزة الرصد.

متعة متابعة مباريات كرة القدم هي أهم من النتائج بالنسبة إلى الكثيرين ولكن هناك مَن يرجّح أن تخطف البرازيل الكأس للمرة السادسة. فهل سيكون صاحب الهدف الأخير برازيليا بعد أن عاد لولا دا سيلفا إلى قصر الرئاسة؟