صالح البيضاني يكتب:
هل بدأ صبر العالم ينفد أمام التصعيد الحوثي؟
لا يبدو أن الهدنة الأممية التي لفظت أنفاسها في الثاني من أكتوبر الماضي باتت تعني شيئا للحوثيين الذين يواصلون خلق واقع جديد قائم على ما يعتقدون أنها سياسة توازن قوة استطاعوا فرضها عبر التلويح باستهداف مصالح الإقليم الاقتصادية وتعطيل ممر الملاحة الدولي، من دون تحمل أي من أعباء اتفاق أممي جديد لوقف إطلاق النار يفرض عليهم عددا من الاستحقاقات أو حتى القليل منها.
في الواقع أن الهدنة الأممية في صيغتها الأخيرة التي توصل إليها المبعوث الأممي إلى اليمن ووضعها على طاولة الحكومة الشرعية والتحالف العربي كانت تلبي بالكامل كل مطالب الحوثيين الذين ظلوا يرددونها طيلة السنوات الماضية ويتذرعون بها لتبرير نكوصهم عن خيار السلام، بل أن بعض تلك المطالب كانت في حقيقتها محاولة حوثية متعمدة لتعجيز الوسطاء الدوليين انطلاقا من الرهان على تعجيزية الشروط التي وضعها الحوثيون كسبيل وحيد لتمديد الهدنة والانخراط في مسار جديد للحوار السياسي يلبي متطلبات الإقليم والعالم للسلام والتهدئة التي فرضتها تطورات الأحداث الدولية وخصوصا حرب أوكرانيا.
ساهمت رهانات الحوثيين الخاطئة باعتقادي في تسرب إحدى فرص التهدئة طويلة الأمد التي كان يراهن عليها المجتمع الدولي لتحويلها إلى فرصة سانحة للسلام في اليمن، وبدلا من أن تشجع هذه الليونة الدولية الحوثيين لتقديم تنازلات مماثلة، صعّدوا من رسائلهم النارية للشرعية اليمنية والتحالف العربي وحتى المجتمع الدولي والتي تحمل في طياتها شعورا بالقوة والقدرة على ابتزاز العالم وإملاء الشروط عليه.
وقد تجلى تعنت الحوثيين في تنصل اللحظات الأخيرة من اتفاق جديد لتمديد الهدنة في الثاني من أكتوبر الماضي كان يتجاوز سقف أحلامهم السياسية، في الوقت الذي استمرت الحكومة الشرعية في لعب دور الطرف العاقل الذي يحترم مصالح العالم وينصاع لرغبات الوسطاء الساعين للسلام ووقف مسلسل العنف الدامي في اليمن الذي دخل عامه الثامن، دون أي مؤشرات حقيقية على اقترابه من نهايته في ظل واقع سياسي وعسكري واقتصادي مرن تشكل على ضفتي الحرب وتحول إلى ما يشبه الحالة المستدامة من تبادل المنافع التي عززت من واقع اللاحرب واللاسلم.
يدرك الحوثيون أنهم لا يمتلكون القوة الكافية لهزيمة العالم أو حتى المساس بالإرادة الدولية، لكنهم يلعبون على وتر المتناقضات الدولية والإقليمية كما يعتقدون ويستغلون انشغال المجتمع الإقليمي بملفات اقتصادية أكثر أهمية، وانهماك المجتمع الدولي في إعادة ترتيب أوراق القوة والتحالفات التي تطايرت مع تساقط أولى قذائف الروس على العاصمة الأوكرانية كييف، أما سلاح الحوثيين في ذلك فكثير من التصريحات التي تظهرهم كقوة لا تقهر مستعدة لخوض حرب المئة عام والكثير من الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة التي تدفقت بغزارة خلال فترة الهدنة.
في مقال سابق أشرت إلى أن القراءات الحوثية لموقف الإقليم والعالم إزاء التعنت والتصعيد الحوثي، هي رهانات خاطئة تندرج ضمن الاستهتار الحوثي بما يمكن وصفه بسياسة الصبر الإستراتيجي التي يتعامل بها التحالف العربي والمجتمع الدولي والشرعية اليمنية مع هذا التصعيد، الذي بات يستهدف موارد الاقتصاد الشحيحة التي تمتلكها الحكومة الشرعية من خلال تعطيل موانئ تصدير النفط والغاز بواسطة الطائرات المسيرة، وهي تطورات باتت تثير ردود فعل ساخطة حتى من أكثر الأطراف الدولية تدليلا للميليشيات الحوثية، وخصوصا الموقف الأوروبي الذي ظل يتعاطى برؤية رومانسية مع الحوثيين كطرف يمني ضعيف ومنهك، يرغب في السلام العادل الذي تحجبه طائرات التحالف العربي!
في الأيام القليلة الماضية، تشكلت ما يمكن أن نعتبرها نواة موقف دولي جديد إزاء الملف اليمني مع وصول الصبر الإستراتيجي الدولي إلى نهايته، حيث سمعنا تصريحات ألمانية تدين التصعيد الحوثي، وهو تطور مهم باعتقادي نظرا إلى دور برلين طوال السنوات السبع السابقة كقاطرة لمواقف التدليل الأوروبي والدولي للميليشيات الحوثية، فرنسا كذلك أطلقت تصريحات متقدمة عبر سفيرها في اليمن تشير إلى أن العالم والغرب تحديدا بدأ يتعرف على طبيعة الحوثيين كجماعة أيديولوجية متطرفة لا يمكن الرهان عليها كطرف سلام، أما التحول الأهم فيكمن في الإحاطة التي قدمها المبعوث الأميركي إلى اليمن تيموثي ليندركينغ أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي والتي كشف فيها عن دور الحوثيين المضر بالسلام ومطالبهم التعجيزية التي تهدد بعودة الحرب في اليمن.
وعلى وقع التحولات الدولية البطيئة بعض الشيء، حدث تطور لافت أيضا على الصعيد الداخلي اليمني، في سياق مؤشرات نفاد الصبر الإستراتيجي ويتمثل ذلك في قرار الحكومة اليمنية تجميد وحظر أرصدة 12 شركة مملوكة لقيادات حوثية بارزة، وهو رد معقول يأتي بعد ساعات من تصعيد حوثي خطير تمثل في رفع الجماعة المدعومة من إيران سقف ابتزازها من خلال منع سفن المشتقات النفطية من الرسو في موانئ الشرعية ومحاولة تحويلها إلى ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة الحوثيين، وهي خطوة جديدة نحو الهاوية تسرع من فتيل انهيار الهدنة التي لم تعد قائمة إلا نتيجة للحسابات الدولية المتزايدة والأنفاس الأخيرة لزفرة الصبر الإستراتيجي الذي يتحلى به الإقليم.