صالح البيضاني يكتب:
ثورة الجياع وسقوط الذرائع الحوثية
ثمانية أشهر ونيف من الهدنة الهشة في اليمن، كانت كافية ليسمع العالم أنين المقهورين والجائعين في مناطق سيطرة الحوثي، والذين بات صدى أصواتهم يتردد عالياً، وتتعالى صرخاتهم الرافضة لسياسة التجويع الممنهجة التي تترافق مع موجة عاتية من الظلم والفساد لم يشهد اليمنيون لها مثيلاً.
خفتت أصوات المدافع، وخفتت معها كذلك أسطوانة الذرائع الحوثية التي كانت تستخدم كمبرر لتكميم الأفواه تحت شعارات من قبيل "توحيد الجبهة الداخلية لمواجهة العدو الخارجي المزعوم". لكن تلك الذرائع سقطت، كما يبدو، بعد ثمانية أشهر من الهدنة، حيث انكشفت شبكات الفساد التي تشكلت تحت مظلة الحرب، لتخوض حربها الخاصة لجمع أكبر قدر من الأموال، وتختطف كسرة الخبز من أفواه الجياع، وتخرس ألسنتهم في الوقت ذاته. طرق النهب الحوثية التي بات اليمنيون في مناطق سيطرة الميليشيات يسردونها، كثيرة ومتعددة الأشكال والأساليب، تبدأ بفرض الجبايات والإتاوات على الأغنياء فتحوّلهم إلى فقراء، وتفرضها على الفقراء فتزيدهم فقراً، ولا تنتهي بنهب الأراضي والممتلكات العامة والخاصة.
منذ دخول الهدنة حيز التنفيذ في الثاني من أبريل (نيسان) الماضي، وحتى مع تعثر تمديدها في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، نتيجة تصلب الحوثيين ورفضهم كافة تنازلات الحكومة الشرعية، بما في ذلك دفع رواتب موظفي الدولة في مناطق سيطرة الانقلاب، تفرّغ الكثير من قادة الميليشيات لممارسة سياسة النهب وعلى نطاق واسع لم يشهد له اليمنيون شبيهاً. تسابق قادة الجماعة فيما بينهم وسابقوا الزمن لتحطيم كل الأرقام القياسية التي تم تسجيلها في التاريخ اليمني الحديث والمعاصر لمراكمة السلطة والثروة، في الوقت الذي امتلأت فيه شوارع صنعاء وبقية المدن اليمنية الخاضعة لسلطة الحوثي بالمتسولين والمشردين، وامتلأت سجون الميليشيات بالمعتقلين والمختطفين قسراً.
وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى غير العادة، بالمنشورات ومقاطع الفيديو التي تنتقد ممارسات الجماعة وتنذر بثورة جياع، قد تجتاح مناطق سيطرة الميليشيات الحوثية التي ضربت أسوأ الأمثلة في الظلم والتجويع وتكميم الأفواه. واللافت في هذه الانتقادات أن جلّها أتى من داخل دائرة الهيمنة الحوثية ذاتها، إما نتيجة الصراع الداخلي المحتدم بين أقطاب الجماعة، أو ربما لبروز أصوات باتت تستشعر الخطر الحقيقي الذي تشكله سلوكيات قيادات الجماعة على مستقبلها، في ظل حالة من الغليان والسخط الشعبي لم يعد بالإمكان إخفاؤها، أو تحميل أطراف أخرى مسؤوليتها، كما دأب عليه الخطاب الإعلامي الحوثي منذ بداية الحرب.
نجحت فترة الهدنة، وتراجع ضجيج المعارك العسكرية والسياسية والإعلامية نسبياً، مفسحاً المجال لسماع صوت مكتوم قادم من أعماق مناطق السيطرة الحوثية، وعبّر اليمنيون في تلك المناطق عن فداحة ما عايشوه من فصول السياسة الممنهجة للتجويع والجباية في آن، والتي تصاعدت بشكل مروع، في الآونة الأخيرة، من دون أن تلوح في الأفق أي مؤشرات على زوالها، بعد أن أصبح الحوثيون أكثر شراسة وقسوة في مفاقمة آلام الفقراء خلال فترة الهدنة، أكثر مما كان الأمر عليه خلال فترة الحرب التي ظل الحوثيون يحمّلونها وزر الفقر والفاقة، التي بدأت في الحقيقة مع إيقاف الميليشيات لرواتب موظفي الدولة بعد الانقلاب والشروع في فرض حزم متتالية من الإتاوات غير المسبوقة، والتي جعلت من الإيرادات المعلنة فقط لصالح مؤسسات الجباية التابعة لحكومة الحوثي في صنعاء تفوق حتى إيرادات الدولة اليمنية قبل الحرب وحتى قبل الانقلاب بمراحل.
برع الحوثيون خلال السنوات الماضية في ابتكار طرق ووسائل جديدة لجبي الأموال وإرهاق المواطنين بالرسوم الباهظة، ولم يترافق ذلك مع أي مسعى للتخفيف عنهم، ولو من خلال صرف الرواتب للموظفين في مؤسسات الدولة، الذين يتم إذلالهم بشكل ممنهج ومتعمد، بإجبارهم على الانخراط في دورات ثقافية طائفية، أو عبر إخضاعهم لما يسمى "مدونة السلوك الوظيفية" الطائفية، واشترطت لبقائهم موظفين عامين، الاعتراف بكل خرافات الجماعة وعصبياتها الأيديولوجية.
والحقيقة التي باتت ماثلة اليوم للعيان، أن سياسة التجويع في مناطق سيطرة الحوثي ليست نتيجة الحرب أو "الحصار" المزعوم، ولا بسبب قلة الموارد التي باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكنها فلسفة متوارثة عن أسلاف الحوثيين، تنطلق من فكرة أن أفضل طريقة للسيطرة على الجموع المتوثبة تكمن في إخضاعها بالجوع والقمع، وهي سياسة بدائية أثبتت فشلها مراراً، حيث كانت دول الإمامة في اليمن على الدوام عرضة للثورات الشعبية، التي غالباً ما يكون مصدرها الجائعون الذين تتلاشى المسافة الفاصلة بين حياتهم وموتهم فتتساوى الخيارات لديهم.
عند التوقف أمام المعطيات السالفة الذكر التي تلقي الضوء على خلفيات البعض من سياسة التجويع الحوثية، ومؤشرات ثورة الجياع التي تلوح في الأفق، تجدر الإشارة إلى أن هناك طوق نجاة غير مستحق للحوثيين، يكمن في قبولهم شروط تمديد الهدنة، والتي تمنحهم امتيازاً خارقاً لقوانين الحرب والصراعات السياسية، والمتمثل في تكفل الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً بصرف رواتب الآلاف من الموظفين الجائعين في مناطق سيطرة المتمردين، وهو أمر قد يكون رائعاً على الصعيد الإنساني، ولكنه عند التعمق في خلفياته يمنح الحوثي قبلة حياة جديدة ويحجب ثورة شعبية تتشكل بسرعة غير متوقعة!.