صالح البيضاني يكتب:
هويات قلقة في مستقبل الصراع اليمني
أحيا الكثير من اليمنيين خلال الأيام الماضية مناسبة لم تكن معروفة من قبل على نطاق واسع وهي “يوم الوعل اليمني” في سياق موجة عارمة لإعادة الاعتبار للمقومات الثقافية للقومية اليمنية واستحضار رموزها التاريخية في مواجهة تحشيد ثقافي قسري يسعى الحوثيون لفرضه اليوم على قطاع عريض من اليمنيين.
وبموازاة الحرب على الأرض شهد اليمن حربا ثقافية ضارية، ساهمت في تفتيت النسيج الاجتماعي وطمس ملامح الهوية الثقافية والاجتماعية الجامعة لتقوم على أنقاضها هويات متعددة هي نتاج مباشر لأزمة هوية حادة عمقت من حالة الانقسام السياسي والجهوي في بلد لم تمر فترات الاستقرار به إلا كطيف عابر.
أنهت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 في شمال اليمن ردحا من النظام الإمامي القائم على التمييز السلالي وظن الثوار حينها أن الطرف المنتصر يمكن أن يحتوي الطرف المهزوم وتم حصر المشكلة في أسرة حميدالدين، التي تبين لاحقا أنها لم تكن إلا رأس جبل جليد ضخم من العقد الأيديولوجية والجينية، التي سرعان ما انفجرت في وجه اليمن، ليعود النظام الإمامي ولكن بوجه أكثر سفورا وبشاعة.
واجه اليمنيون منذ الانقلاب الحوثي في 2014 فصلا كئيبا من التمييز السلالي والطبقي لا يمكن حتى مقارنته بنظام الفصل العنصري الذي شهدته جنوب أفريقيا على سبيل المثال، والذي كان يقوم على سياسة الفصل لا الإخضاع والاستغلال، كما كان يستند إلى قوانين بشرية سرعان ما سقطت، في الوقت الذي يدعي الحوثيون اليوم أن تميزهم المزعوم جاء بأمر سماوي لا يمكن الاعتراض عليه أو إسقاطه.
ولّدت ممارسات الحوثي العنصرية ردة فعل حادة في أوساط اليمنيين، وكانت ولادة ما يعرف بتيار “الأقيال” أو “القومية اليمنية” جزءا من ردة الفعل الثقافية الشاملة في مواجهة حالات التأصيل الديني للتميز السلالي الحوثي التي تم فرضها قسرا وممارستها كواقع على الأرض، ما نتج عنه تقسيم اليمنيين إلى فئات يقف الحوثيون وسلالتهم “الهاشمية” على رأس هرمها، بينما يقبع بقية اليمنيين في درجات سفلى بحسب قبولهم أو رفضهم لهذا المشروع الذي يسعى لإعادة توزيع الهيكل الاجتماعي في البلاد، بما يخدم فئة قليلة من المجتمع طامحة للاستحواذ على السلطة والثروة والمكانة الاجتماعية على حساب الأغلبية الساحقة من اليمنيين.
وبينما قلل الكثيرون من أهمية هذا الحراك الذي يستهدف إحياء القومية اليمنية وأثره المستقبلي في إعادة رسم ملامح الصراع القادم في اليمن، لم يخف الحوثيون قلقهم من هذا الخطاب الحاد، فهم أكثر من غيرهم يدركون بأن كل شيء يبدأ بمجرد فكرة، بما في ذلك جماعتهم التي بدأت كشعار في جبال صعدة فقط قبل أن يبتلع هذا الشعار الدولة اليمنية في وقت لاحق ويتحول إلى مصدر قلق لأمن الإقليم والعالم.
يعيش اليمن اليوم انبثاق ثلاث هويات جديدة قلقة على أنقاض هوية اليمن الجامعة التي هشمتها الصراعات والحروب، وكان الحوثي بمثابة الصاعق الذي فجر قنبلة التشظي والانقسام وسرع من آثارها وحفز أطرافا أخرى على استحضار هويات خاصة.
أطلق الحوثيون على هويتهم الخاصة التي تمنحهم التميز على بقية اليمنيين اسم “الهوية الإيمانية” على اعتبار أن الإيمان بتميز سلالتهم هو ركن من أركان الإيمان بالدين وفقا لمفهومهم المذهبي المتشدد، ولتكريس هذه الهوية الجديدة عملوا على إلغاء أو تحجيم كل ما يتصل بالهوية اليمانية التي رأوا أنها تعيق مشروعهم السلالي وتحجب عن عقول اليمنيين أسباب فرادة هذه السلالة المقدسة.
وفي خضم الصراع المحتدم بين هويتين “يمانية” يمثلها “الأقيال” و”إيمانية” يدعو إليها الحوثيون، برزت هوية جديدة صاعدة في جنوب اليمن، هي الهوية الجنوبية أو “الجنوب العربي”، التي بات الكثير من المؤمنين بها، يكفرون بالضرورة بكل ما يتصل بالهوية اليمنية التي ارتبطت في أذهانهم بالغزو والحرب والصراعات التي عانى منها الجنوب منذ حرب صيف 1994 وبلغت ذروتها في أعقاب الاجتياح الحوثي للجنوب في 2015.