الحبيب الأسود يكتب:
بلينكن يسعى وراء انتخابات ليبية تكرس الأمر الواقع
يبدو أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يتابع المشهد الليبي من كوكب آخر غير الأرض، لذلك تطرق إلى “أهمية الدعم الدولي الموحد لإجراء انتخابات في ليبيا” في العام الجاري، لينضم بذلك إلى جوقة الواهمين ممن يعتقدون أن هناك بالفعل إمكانية لتنظيم استحقاق انتخابي في ظل التناقضات التي تتحكم في مسارات الوضع العام في بلد لا يزال يتعرض لعملية تخريب ممنهج يشترك في تنفيذها فاعلون خارجيون يسعون لبسط نفوذهم على الجغرافيا والمقدرات والقرار السياسي، وآخرون في الداخل يتصارعون من أجل تقاسم الغنيمة متسترين بالفوضى ومستندين إلى مواقف دولية مرتبكة وغير جادة في إيجاد الحل المناسب للأزمة.
من حق أي مواطن ليبي بسيط أن يسأل بلينكن عما إذا كان بالإمكان تنظيم انتخابات في بلد لا تزال عاصمته خاضعة لسلطة الميليشيات وأمراء الحرب ممن يتصارعون في ما بينهم ليل نهار، ويرفعون لافتات الإقصاء في وجه كل من يختلف معهم في الموقف والاتجاه، ويعتبرون أنفسهم أوصياء على الدولة والمجتمع وعلى شعارات فبراير، وهم لا يعترفون بالحل السياسي ولا بالمصالحة الوطنية ولا بالتداول السلمي على السلطة ولا بحق الآخر والمختلف في أن يكون له نصيب من السلطة والقرار.
ما ورد على لسان بلينكن يمكن أن يشير إلى أن واشنطن تريد تنظيم انتخابات تكرّس بها سلطة الأمر الواقع التي يمثلها الدبيبة
هل يمكن مثلا أن يترشح للانتخابات في طرابلس أو مصراتة أو الزاوية شخص يدافع عن النظام السابق أو عن قيادة الجيش في شرق البلاد؟ وهل يمكن لشخص مثل الجنرال خليفة حفتر أو سيف الإسلام القذافي أن يدير حملته الانتخابية في واحدة من المدن أو القرى الخاضعة لسلطة الميليشيات؟
في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021 كان من المقرر أن تنتظم انتخابات في ليبيا بالتزامن مع الذكرى السبعين لقيام دولة الاستقلال، المملكة المتحدة، وكانت الأمم المتحدة وكل العواصم الغربية تقريبا، ومنها واشنطن، تتحدث عن الانتخابات التي ستخرج بالبلاد من أزمتها وتعيد للدولة سيادتها.. ولكن لا شيء من ذلك تحقق، فالمنتظم الأممي والمجتمع الدولي قد يستطيعان إطلاق الوعود وإرسال التعهدات والترويج للأماني فيما هناك حسابات أخرى تدير الواقع، من خلال أفراد يحركون الأحداث وفق مشيئتهم، ولن يستطيع بلينكن إجبارهم على تغيير مواقفهم.
من الذي فرض القوة القاهرة على انتخابات 2021؟ هناك من يقول الميليشيات التي هددت بضرب حصار على مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهناك من يتهم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، الذي نكث عهده أمام ملتقى الحوار وداس على الاتفاق بعدم الترشح، وأصرّ على أن يخوض السباق الرئاسي، وأن يرفع شعار إما أن أفوز بالرئاسة أو أن أدفع نحو فوضى غير مسبوقة. وهناك من يرى أن القوة القاهرة الحقيقية هي تلك التي جسدها القرار الأميركي بتأجيل الاستحقاق بعد أن تأكد أن المنافسة الحقيقية ستكون بين حفتر والقذافي اللذين لا ترتاح لهما بسبب علاقاتهما الوطيدة مع موسكو، وكذلك بسبب ميولهما الوطنية السيادية غير القابلة للمساومات.
تخضع ليبيا حاليا لتجاذبات على أكثر من صعيد، ومن ذلك التنافس على صفقات النفط والغاز والاستثمارات بين البلدين اللذين يحتكمان على قوات عسكرية فعلية في غرب البلاد، وهما تركيا وإيطاليا، وكذلك الحرب المعلنة بين الجانب الأميركي الذي يهدف إلى وضع ليبيا في مدارها السياسي والإستراتيجي، وبين روسيا التي لا يمكن أن تتنازل عن حضورها في الداخل الليبي، وهي موجودة ليس فقط من خلال عناصر شركة فاغنر الخاصة، ولكن كذلك من خلال علاقات متشابكة مع فاعلين سياسيين واجتماعيين وميدانيين في الملف، وفي سياقات إقليمية ودولية مرتبطة بالوضع في شرق المتوسط وفي دول الساحل والصحراء، يضاف إلى ذلك أن صراعا حقيقيا يدور حول تقاسم الثروة بين من ينظرون إليها كغنيمة لا طريق إلى الاستفادة منها إلا بالمزيد من الفوضى والفساد والجرأة على القانون والأعراف والقيم، وهو ما نراه حاليا في طرابلس حيث تمارس سلطة الأمر الواقع كل أشكال المساومات والابتزاز والنهب والصفقات المشبوهة مع القوى الداخلية والخارجية.
تصريحات بلينكن فهي جزء من الفراغ الهيكلي في منظومة العبث الأميركي بالملفات الجدية إلى حين إفراغها من جميع محتوياتها
لا يستطيع الدبيبة، وهو رئيس حكومة الوحدة الوطنية، الانتقال إلى المنطقة الشرقية ولا التجوال في شوارع وساحات بنغازي أو طبرق أو درنة أو البيضاء أو الكفرة. وبالمقابل لا يستطيع الجنرال حفتر دخول طرابلس أو مصراتة، كما أن سيف الإسلام القذافي لا يزال قيد التخفي في مناطق الجنوب، وهناك ليبيون لا يزالون لاجئين أو نازحين أو محتجزين في سجون الميليشيات، وهناك إصرار بين الكثير من الفرقاء على عدم الاعتراف المتبادل في ما بينهم، وهو ما يعني أن أي انتخابات قادمة ستواجه عدم الاعتراف بنتائجها من هذا الطرف أو ذاك، لاسيما أن مشروع المصالحة الوطنية لا يزال بعيد المنال بسبب لعنة الثروة التي يريد البعض أن يحتكرها لنفسه ولشركائه وللمقربين منه وأن يحرم منها الآخر المختلف معه.
يكفي أن نتابع ما يدور من حيثيات التصرف في المال العام من قبل مصرف ليبيا المركزي الخاضع حاليا لحكومة الدبيبة لندرك أن هناك معركة حقيقية في الأفق قد تعصف بكل الخطوات التي تحققت خلال العامين الماضيين.
إن ما ورد على لسان بلينكن يمكن أن يشير إلى أن واشنطن تريد تنظيم انتخابات تكرّس بها سلطة الأمر الواقع التي يمثلها الدبيبة الذي أبلى إلى حد الآن بلاء استثنائيا في تقديم مصالح الأجانب على مصلحة بلاده، والذي لا يرى مانعا من تقسيم مقدرات ليبيا بين ست أو سبع دول يعتقد أنها قادرة على أن تضمن له الاستمرار في الحكم إلى أجل غير مسمى، إلا أن الأميركيين يريدون انتخابات مشروطة بغياب من يعتبرونهم مزعجين لتطلعاتهم في ليبيا والمنطقة، وهم لا يهتمون كثيرا لما يدور في شرق أو جنوب البلاد طالما أن النفط قيد الإنتاج والتصدير، وإيراداته تنزل بالمصرف المركزي.
أما عن انتخابات ديمقراطية وتعددية وشفافة ونزيهة ومعبرة عن إرادة الليبيين في كافة أرجاء البلاد، فلن تنتظم لا في هذا العام ولا في العام الذي يليه، وذلك لأن لا أحد حاليا بإمكانه إزالة العراقيل، ولا تحرير القرار الوطني من سلطة الميليشيات والسلاح المنفلت والمرتزقة والقوات الأجنبية وشبكات الفساد ولصوص المال والتدخلات الخارجية سواء كانت شرقية أو غربية، دولية أو إقليمية، مباشرة أو بالوكالة. أما تصريحات بلينكن فهي جزء من الفراغ الهيكلي في منظومة العبث الأميركي بالملفات الجدية إلى حين إفراغها من جميع محتوياتها.