هيثم الزبيدي يكتب:
يانصيب جغرافي بين مصر والسعودية
ما حدث من تراشق إعلامي بين السعودية ومصر هو سيناريو مكرر. هذه ليست المرة الأولى التي تثار فيها قضايا بين البلدين، بعض منها ثنائي والآخر عن قضايا إقليمية يختلف الطرفان عليها. في العادة، تترك الأمور للإعلاميين، في تبادل اللوم والقدح وفي لملمة الأمر بالكتابة عن الإخوة الأشقاء. السياسيون يبقون ساكتين. ما يميز التراشق الأخير هو أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تحدث في الأمر بشكل مباشر، ووضع حدا له. السياسيون السعوديون استمروا على صمتهم.
في قلب هذه المشاهد الانفعالية بين البلدين هي طريقة النظر للآخر. هناك الكثير من المصريين ينظرون إلى السعودية كبلد ثري لا يعرف ما يفعل بثرائه، بينما يرى سعوديون أن مصر بلد مسترخٍ لمصير التضخم السكاني وحكم الجيش. ومن حسن الحظ أن جدل “أرسلتم إلينا الفكر السلفي” و”بعثتم لنا الإخوان” لم يدخل حلبة النقاش هذه المرة. مصر مهمومة بوضعها الاقتصادي وتريد نافذة للخلاص من أزمات تتزايد بمرور الوقت، بينما السعودية منشغلة بتحويل العائدات الإضافية للنفط إلى مشاريع داخلية واستثمارات خارجية تدر عليها المزيد من العائدات، للغد القريب أو للمستقبل.
المشهد الأخير كان بسبب تغريدات لكتّاب سعوديين معروفين. ربط هؤلاء الكتاب، ممّن يوصفون بالمقربين من دائرة صنع القرار، بين المال الذي توفر لمصر خلال 10 أعوام ونقص التنمية. ولأن الجيش المصري هو القوة المحركة لكل شيء في البلاد، فإنه الملام. الأموال تحولت إلى مشاريع حكومية تشرف عليها شركات الجيش (وهو مصطلح اقتصادي جديد ومبتكر)، مما جعلها لا تدخل في نطاق التنمية المنتظرة في مصر. للحق، فإن جزءا مهما من هذه الأموال كان موجها لشراء السلم الاجتماعي لما بعد سقوط نظام مبارك وما أعقبه من هزات سياسية قادت إلى صعود حكم الإخوان وسقوطه. ولعل أهم ما في بنود السلم الاجتماعي في مصر هو الأمن الغذائي لبلد لا يعرف إلى اليوم كيف يستطيع وقف مد النمو السكاني. شركات الجيش ذهبت إلى الخيارات السهلة البعيدة عن التنمية، من مشاريع عقارية وعاصمة إدارية جديدة وتوسعة لقناة السويس، ومن الدخول على خط الإنتاج الزراعي بشقيه الفلاحي والإنتاج الحيواني، من علف المواشي إلى مزارع الدواجن.
لا نعرف بالضبط هل يمكن أن تعد معامل الإسمنت أو معاصر الزيوت النباتية أو مصانع البسكويت كمؤشر على الصناعة بغاية التنمية. هذه، في أفضل الأحوال، صناعات بدائية وموجهة للاستخدام المحلي. ثمة ما يبرر هذه الخيارات. فالمشاريع العقارية والمقاولات من حفر وتشييد توفر الدخل للأيدي العاملة المتوفرة في مصر. وبدلا من استيراد الدواجن مثلا، فإن مصر تسعى إلى توسيع رقعة الإنتاج لتوفير حصة غذائية بروتينية للناس، حتى وإن كان العلف الجاف مستوردا. المشكلة ماذا يفعل عمال البناء حين نعدم التمويل وكيف تستمر مزارع الدواجن مع غلاء العلف القادم من الخارج.
المأخذ المتكرر هو أن الجيش يتصرف بالمال والمشاريع كما يحلو له. وهذا المأخذ لم يكتبه المغردون السعوديون، بل شخّصه خبراء صندوق النقد الدولي وجعلوا من مراقبة مصير القروض الدولية القادمة شرطا لمنحها. للجيش، أو لشركاته، الأفضلية كما يبدو وهذا يجعل مهمة التنمية التي يحركها القطاع الخاص عسيرة. مصر بلد مستورد ومستهلك من الطراز الأول، وهذا يعني ضرورة توفير المال بشكل متواصل لتغذية نهم الاستهلاك، حتى وإن كان نهما لإشباع البطون ولا علاقة له بشبع الأثرياء. وبحسبة بسيطة على الأصابع فإن مصادر العملة الصعبة لمصر في تراجع عموما: الدعم الخارجي كمنح أو قروض أو استثمارات وافدة؛ وتحويلات المصريين التي تواجه تحديات انحسار أسواق العمل في الخليج وأوروبا. لعل الاستثناء هو واردات قناة السويس التي سجلت زيادة ملحوظة.
الانتقادات السعودية تشخّص الجيش المصري كعامل معرقل للتنمية. والجيش المصري ليس مؤسسة جديدة، فهو المؤسسة الحاكمة من يوم سقوط الحكم الملكي مطلع الخمسينات. الانتقادات في أساسها أن السعوديين، ومعهم الخليجيون المانحون الآخرون، لا يرون نهاية في الأفق للدعم الذي تنتظره مصر منهم. هناك مطالبة مستمرة. وعندما يتلكأ السعوديون عن تلبية المطالبات، تثور ثائرة المصريين فيما يعتبرونه “حقا مكتسبا”.
ولكن لماذا هذه النظرة إلى الحق المكتسب؟ لماذا لا يتوجه المصريون مثلا للمطالبة من دول أخرى بأن يأخذوا المنح والدعم؟ السعودية بلد ثري بلا أدنى شك، لكن الناتج القومي للسعودية البالغ حوالي ترليون دولار (2021) يعادل الناتج القومي الهولندي. لا يتوجه المصريون إلى الأوروبيين أو الأميركيين مطالبين بدعم مثل الذي ينتظرونه من السعوديين خصوصا والخليجيين بشكل عام. لو سألت مصريا ستجد إجابة واضحة: إنها ثروة النفط وعليهم أن يعطونا منها. أي أن المنطق السائد هو “أعطونا ممّا أعطاكم الله”. المصري يرى الخليجي مستمتعا بثروة منحها له “يانصيب الجغرافيا” الذي جعل النفط في شبه الجزيرة العربية. ويزيد في الاعتقاد نوع سائد من التثقيف السياسي والاجتماعي والديني، بين أنها ثروة عربية أو إسلامية وليست خليجية حصرا. المصري مثلا لا ينتظر من التركي المسلم أن يمدّه بالمال بنفس الطريقة التي ينتظرها من الخليجي. من وجهة نظره أن المال التركي مقابله جهد، بينما المال الخليجي هو ريع. من المفيد التذكير بأن الناتج القومي التركي يعادل تقريبا الناتج القومي السعودي.
من هذا المنطق تكون الردود المصرية الإعلامية حادة وتصل إلى الإساءة والحديث عن “حفاة” و”عراة”. ثم يتذكر الجميع أن العالم يعيش عصر الدولة القومية التي تتحكم بمالها ومواردها، وأن زمن الأمم التي تعرّف نفسها قوميا أو دينيا قد انتهى. ثراء السعودية هو ثراؤها الخاص ولا حصة لأحد فيه إلا ما قررت أن تمنحه. هذا موضوع منفصل تماما عن تعليقات المغردين السعوديين الذين يلومون مصر على عدم الاستثمار في التنمية.
في بعض الردود الواردة من السعوديين على الهجوم المصري الأخير، أثيرت فكرة أن أجداد أهل الجزيرة العربية من الفاتحين العرب المسلمين أعطوا للمصريين لغتهم التي يتحدثون بها ودينهم الذي يفتخرون به. ربما من المناسب أيضا الإشارة إلى أن الفتح الإسلامي لمصر كان في وجه من أوجهه تسوية لـ”يانصيب جغرافي” آخر منح مصر النيل وحوّل جزءا من أرضها من صحراء لا تختلف مناخيا عن صحراء الجزيرة العربية إلى دلتا خضراء كان قمحها لا يصدّر إلى الحجاز فقط، بل إن روما كانت تأكل منه في عزّ مجد الإمبراطورية الرومانية. التسوية كانت بالفتح حين فرض الفاتحون المسلمون “أعطونا ممّا أعطاكم الله” من خيرات وادي النيل.
إذا كان هناك من يدرك خطورة عدم الاستثمار في التنمية فهم السعوديون. لعقود، كانت السعودية بلدا مستهلكا للريع القادم من النفط. ومثلها مثل مصر، فإن الإغراءات “التنموية” كانت محصورة بالتشييد العقاري. وأيّ قارئ لمؤشرات النمو السكاني سيلاحظ أن مؤشرات النمو السكاني السعودية لا تختلف عن تلك المصرية. الفرق أن السعودية بدأت من عدد سكان أقل من الرقم المصري. النمو السكاني السعودي يفرض مشاكله الخاصة على البلاد. ولعل هذا من أكبر مسببات التحول الكبير في نهج القيادة السعودية الشابة، في الذهاب بعيدا في الاستثمار لغاية التنمية وليس الاستهلاك. لا يزال الطريق السعودي طويلا للتحول إلى بلد تنمية يتجاوز فكرة الريع. فالصور النمطية لدور الدولة في توزيع الثروة ورعاية أبنائها لا تزال راسخة وستحتاج إلى أكثر من جيل للخروج منها.
التراشق الأخير كي لا يتكرر، يحتاج إلى إعادة نظر ثقافية. سيكون الأمر صعبا بالتأكيد لوجود قناعات راسخة عند الطرفين. لا يوجد شيء سهل هذه الأيام.