كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

كساد إمبريالية البث الفضائي

لندن

كان على كريس ليخت الرئيس التنفيذي لشبكة “سي. إن.إن” الإخبارية أن يتسلح بأكثر من الثرثرة اللطيفة ويختار المفردة الأقل وطأة من مفهوم الكساد وهو يتحدث عن “التراجع الإستراتيجي” بإنقاذ ما كان يطلق عليها إمبريالية البث الفضائي من أزمة منتصف العمر العليلة.
القنوات التلفزيونية لم ترقد في السوق المريضة كما الصحافة، لكن المرض الإخباري الذي أصاب أول قناة إخبارية أميركية أخطر من مجرد الانكسار أو التعثر. مقابل ذلك هناك تقييمات مخيفة إذا ما قورنت مع المحطات الإخبارية المنافسة.
من الأهمية بمكان أن نعرف هنا، أن شبكة “سي.إن.إن” ما زالت تسجل أرباحا تشغيلية لكنها تمثل انخفاضا بمقدار نصف مليار دولار تقريبا عن آخر ذروة ربح سجلته.
لقد ذهب زمن التسعينات حيث التفرد ومصدر الخبر الأوحد، كان الجمهور ينتظر الأخبار لا غيرها وكانت محطة تيد ترنر وحدها من جعلت الأخبار نجم الشاشة!
يتحرك ليخت الذي تقلد منصبه بداية العام الحالي وهو صحافي أخبار بامتياز، في محاولة الإنقاذ بجعل شبكة “سي.إن.إن” تبدو كأنها صحيفة، عبر تغليف الأخبار العاجلة بمحتوى آخر متعلق بنمط الحياة والرياضة على أمل أن يُبقي المشاهدين مشدودين إليها، حتى في الأيام التي تخلو من الأخبار المهمة.
لكن عندما نقرأ تصريح أحد المسؤولين التنفيذيين في الشبكة بقوله “أكره أن أقول هذا لكن عندما أنظر إلى المستقبل، أرى مشكلات بلا نهاية” نتساءل ما أهمية الأخبار اليوم، ومن يدفع مالا لشرائها، بل هل يوجد من يترقبها ويبقى مشدودا أمام الشاشة، بينما هي في جيبه على شاشة هاتفه؟ حتى الأخبار العاجلة التي كانت موجودة في الأوقات الماضية أكثر ندرة اليوم. في وقت قرر فيه الملايين ألا تكون القنوات الإخبارية القديمة جزءا من حياتهم، وأن الأمر لا يستحق وقت فراغهم.
مع ذلك يبدو الكلام الأخير للرئيس التنفيذي للشبكة الإخبارية يرفض الفكرة الجاهزة لإخراج وسائل الإعلام من الكساد، بينما الولايات المتحدة نفسها تعيش انقساماً سياسياً مسموما زاد جرعته الغاضبة الرئيس السابق دونالد ترامب، فآخر ما يفكر به كريس ليخت في خطة إنقاذ إمبريالية البث الفضائي أن يكون مسالما أو وسطيا، كما قال لصحيفة فايننشال تايمز، معتبرا هذا الافتراض أحد أكبر المفاهيم الخاطئة حول رؤيته. فهو يؤمن بالفرق بين أن تدافع عن نفسك إخباريا وبين أن تكون جزءاً من المقاومة العامة.
كذلك يصر على أن يكون مقنّعا ومُنحرفا إخباريا. وفق ميزة الانحياز إلى أحد الأطراف. وإذا تمسك بشيء من الحيادية المفترضة فعليك حسب ليخت أن “تطرح فقط الأسئلة غير المريحة. من دون جعل الأمور تُرى من خلال عدسة اليسار أو اليمين”.
إن كريس ليخت يفكر ويتحدث هنا بلغة أورويلية فظّة بقطع أنفاس مفهوم الحياد الموضوعي منذ أول نشرة إخبارية غلفت بالحياد الزائف بثتها “سي.إن.إن” عام 1980.
وعلى مدار 42 عاما في صناعة البث، تجاهلت إمبريالية البث الفضائي الإستراتيجية الأذكى للصحافة الموضوعية وشهدت الفضائح التحريرية والمشكلات السياسية، وتبني الأكاذيب كحقائق مطلقة في حرب احتلال العراق وقبلها أسلحة الدمار الشامل المزعومة، دعك من تذكّر كذبة نيرة الصباح الشهيرة في حرب الكويت عام 1991.
كان جورج أورويل بوصفه ذهنا استخباراتياً يحاول أن يكون حيادياً بتخليص ذاته من التأثير على كونه صحافياً في جملته الشهيرة “هناك أوقات لا يستطيع فيها الصحافي تجنب كونه جزءا من القصة”. واليوم يتقمص كريس ليخت الرئيس التنفيذي لشبكة “سي.إن.إن” رداء الأخ الأكبر في إنقاذ إمبريالية البث الفضائي من كسادها.