د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
المجتمع الدولي يكيل بمكيالين (1)
يُعدّ الكيل بمكيالين انتهاكاً لمبدأ العدالة المعروفة باسم الحياد، والذي يقوم على أساس وجوبية تطبيق نفس المعايير على جميع الناس، ومن هذا المنطلق تهرع الدول لنصرة المظلوم حينما يتطابق ذلك مع مصلحتها الخاصة.
تحل في عام 2023 ذكرى مرور 75 عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو وثيقة بزغت من حطامٍ خلفته حرب عالمية، وعلينا ألا ننتظر حتى يحترق العالم مجدداً لكي نعيش حقاً في ظل احترام الحريات والمبادئ التي أُرسيت على حساب ملايين الأرواح، وينبغي أن يكون عام 2023 نقطة تحوِّل في حماية حقوق الإنسان؛ فأي شيء دون ذلك من جانب قادة العالم سيكون بمثابة خذلان قد يودي بالعالم إلى الهاوية.
علماً بأن الدول قادرة - بعيداً عن المظلات الدولية - على أن تكيل بمكيالين في علاقاتها وتناور وفق ما تقتضيه مصالحها وضرورياتها وتوجهاتها المرحلية؛ بيد أن ذلك يتم تحت شرعية المظلات الدولية التي أنشأها الكبار وتجمع تحتها الصغار، حيث سن الكبار المواثيق الغلاظ لهذه الشرعية وأخضعوا لها القاصي والداني.
لقد ظلَّت منظمات حقوق الإنسان تُحذِّر على مدى أكثر من عشر سنوات؛ من استمرار التدهور المتواصل في احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، ومع ذلك كان عام 2022 عاماً كارثياً آخر لحقوق الإنسان، حيث وصل انهيار المعايير الدولية إلى حضيض جديد، وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
1. بُليت إيران بوفاة المواطنة الإيرانية الكردية مهسا (جينا) أميني في الحجز في 16 سبتمبر 2022 لتكون (أي الوفاة) بمثابة الشرارة التي أشعلت الانتفاضة في مختلف أنحاء البلاد احتجاجاً على عقود من القمع؛ وجاءت وفاتها وسط أنباء موثوقة عن تعرضها للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة بعد ثلاثة أيام من اعتقالها بأسلوب عنيف على يد ما تسمى بـ "شرطة الأخلاق" في إيران التي دأبت على إخضاع النساء والفتيات للاعتقال والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة السيئة بذريعة عدم التزامهن بقوانين الحجاب الإجباري في إيران التي تنطوي على التمييز وانتهاك حقوق الإنسان.
2. إقدام روسيا على غزو أوكرانيا لتكبدها خسائر فادحة في الأرواح والبنية التحتية، مما أسفر عن أزمة عالمية في الطاقة وإنتاج وتوزيع الغذاء لا تزال تؤثِّر بشكل غير متناسب على البلدان الفقيرة، لكنه بعد أقل من أسبوع من الغزو الروسي أعلن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية عن إجراء تحقيق بشأن جرائم الحرب التي ارتُكبت في أوكرانيا، وصوَّتت الغالبية العظمى من الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إدانة الغزو الروسي باعتباره عملاً عدوانياً، وفي الوقت نفسه بادرت الدول الأوروبية التي طالما رفضت قبول لاجئين بفتح أبوابها أمام الأوكرانيين الباحثين عن الأمان.
وفي الوقت الذي يُعد العدوان الروسي ضد أوكرانيا حرباً ضد القيم العالمية والنظام المتعدد الأطراف المُعد لتعزيزه لا يجوز أيضا أن يلجأ العالم الغربي من أجل الانتصار في تلك الحرب إلى التغاضي فعلياً عن أشكال مماثلة من العدوان في بلدان أخرى لمجرد أن مصالحه معرضة للخطر.
3. شهدت أماكن أخرى كثيرة أخرى مماثلة نزاعات مسلحة أو عمليات عنف منهجي وما يصاحبها من انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان.
وقد أكدت هذه الأمثلة لباقي بلدان العالم أن دعم الغرب لحقوق الإنسان يتسم بالانتقائية وتغليب المصالح الذاتية، كما قوّضت بذلك الدعم العالمي لأوكرانيا، لكن القوى الغربية ليست وحدها المستفيدة من تلك المعايير المزدوجة، فهناك الصين التي واصلت تجنب الإدانة الدولية من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بالرغم من الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، التي ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، كما يحدث ضد الأويغور وغيرهم من الأقليات المسلمة.
الكيل بمكيالين وقصور الاستجابات الدولية
ليست هناك استجابات دولية للأزمات الحقوقية في إيران، ولذلك استفاد نظام الملالي من عدم اهتمام الكثير من الحكومات الغربية بتداول حقوق الإنسان في إطار سياستها الخارجية إزاء إيران.
يسلط التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2022/2023 الضوء على ازدواجية المعايير في ما يخص حقوق الإنسان وفشل المجتمع الدولي في الإصطفاف حول حقوق الإنسان والقيم العالمية.
لقد شجعت المعايير المزدوجة، وتقاعس المجتمع الدولي عن الاصطفاف حول حقوق الإنسان التي ينبغي احترامها والالتزام بها على نحو متسق نظام الملالي على تصعيد ممارساته الإجرامية والقمعية وانتهاكاته لحقوق الانسان.
وبناءاً عليه لابد من وجود نظام دولي فعال يستند إلى قواعد يتم تطبيقها على نحو متسق، ويجب على جميع الدول تكثيف جهودها من أجل إنشاء نظام يقوم على القانون ويعود بالفائدة على جميع البشر في كل مكان وبدون استثناءات.
القمع الشديد للمعارضة
استمرت السلطات الإيرانية في تكميم أفواه معارضيها، وسحق الاحتجاجات، وتقييد حرية التعبير، ومن بين سبل ذلك القوانين القمعية، واستخدام القوة المميتة غير المشروعة، والاعتقالات الجماعية.
ففي إيران، كانت وفاة المواطنة الإيرانية الكردية مهسا (جينا) أميني في الحجز في 16 سبتمبر بمثابة الشرارة التي أججت الانتفاضة في جميع أنحاء البلاد تواصلاً بالإحتجاج على عقودٍ من القمع.
والجدير بالذكر أن السلطات الإيرانية قد تصدت بدموية مسرفة للانتفاضة الشعبية غير المسبوقة مستمدة جرأتها من عقود من الإفلات من المساءلة والعقاب؛ من خلال إطلاق الذخيرة الحية، وكريات الرصاص المعدنية، والغاز المسيل للدموع بصورة مكثّفة وغير مشروعة ما أدى إلى قتل المئات بصورة غير مشروعة بينهم ما لا يقل عن 44 طفلاً وعشرات النساء، واعترفت السلطات باعتقال أكثر من 22,000 شخص لأسباب تتعلق بالاحتجاجات، في حين تعرض المعتقلون في إطار موجة الاعتقالات الجماعية بما في ذلك الأطفال للتعذيب وغيره من ضروب القمع والملاحقات القضائية الجائرة، والاختفاء القسري، والمحاكمات غير العادلة، كما قامت السلطات بإغلاق أو تعطيل شبكات الإنترنت وشبكات الهواتف المحمولة، وبحجب منصتي واتساب وإنستغرام أو حجب جزءٍ من محتواهما.
النساء يتحملن القسط الأكبر من عواقب تقاعس الدول عن حماية واحترام الحقوق، وقد كانت النساء والفتيات في طليعة الاحتجاجات التي تأججت في إيران، وتحدّين عقوداً من التمييز والعنف القائمين على النوع الاجتماعي، وقوانين الحجاب الإجباري المسيئة، وترددت أصداء الهتافات بشعار "المرأة - الحياة - الحرية" في أرجاء إيران من عمق فكانت مبعث إلهام للملايين في المنطقة وفي مختلف أنحاء العالم.
إن النساء والفتيات في إيران يتصدين لمحاولات دؤوبة من أجل فرض الهيمنة عليهن وإخضاعهن، ورغم ذلك فإنهن يواصلن الكفاح بشجاعة دفاعاً عن حقوقهن، ومثلما رأينا في إيران فقد خاطرت النساء بأرواحهن للتصدي للعنف والتمييز المترسخين في المجتمع بفعل الأنظمة الدكتاتورية والطيقة الكهنوتية مطالبات بالمساواة، وقد آن الأوان لأن تصغي حكومات المنطقة لهذه المطالب.
ضعف المؤسسات الدولية
أدى الكيل بمكيالين والتناقضات إلى تقويض ثقة الشعب الإيراني في المؤسسات والآليات والتشريعات الدولية وخاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان، وفي الوقت الذي تكتسي فيه هذه المؤسسات والآليات أهمية حاسمة أكبر من أي وقت مضى نظراً لغياب أي سبل محلية لتحقيق المساءلة، لذا بات من الضروري تعزيز المؤسسات والأنظمة الدولية التي أُنشِئت من أجل حماية حقوق الإنسان بدلاً من تقويضها.
أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بعثة لتقصي الحقائق كي تتولى التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بالاحتجاجات التي اندلعت في إيران في 16 سبتمبر 2022 في خطوة جديرة بالترحيب وإن جاءت متأخرة للغاية، وقد ظلت منظمة العفو الدولية منذ سنوات تسعى لإنشاء آلية دولية للتحقيق والمساءلة بشأن إيران، ولطالما ساقت الحجج على أن أزمة الإفلات الممنهج من العقاب في إيران تؤجج الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي.
حقوق الإنسان في إيران
إن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان في إيران والتي تفتقد بعض تقاريرها أحياناً إلى الدقة والشفافية المطلوبة؛ ترصد انتهاكات لهذه الحقوق في السجون والمعتقلات، وتتحدث عن عمليات لإغلاق الصحف ومحاكمة للمثقفين والاحتجاز في مراكز الشرطة ومقار الاستخبارات لفترات طويلة دون محاكمة، إضافة إلى حوادث قتل وتعذيب لبعض رموز المعارضة السياسية، وفيما يلي أوجه انتهاكات حقوق الإنسان في إيران:
الإعدام والقتل السياسي
تُمثِّل حالات الإعدام بتهم سياسية دون أن تتوافر إجراءات قضائية عادلة أو إمكانية الإستئناف أمام دوائر قضائية أعلى؛ أكبر انتهاك لحقوق الإنسان، حيث تغتصب مثل تلك الإنتهاكات ودون أدنى مبالاة حق المتهم في الحياة مستفيدة من سياسة الإسترضاء ونهج الكيل بمكيالين الذي هو موضوع مقالنا.. يُتبع
د. سامي خاطر / أكاديمي وأستاذ جامعي