د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
أوروبا بين سحر القول والادعاء؛ وحقائق الواقع على الأرض
لقد ساد مبدأ عدم مسئولية الدولـة عـن أعمـال سـلطاتها (التـشريعية والقضائية والتنفيذية ) منذ زمن بعيد بسبب سيطرة مبدأ سيادة الدولة الذي يتنافى مع مبدأ المسئولية، ويتضح لنا أن مفهوم سيادة الدولة يعنى أنها غير مسئولة عما يصدر عن سلطاتها العامة من أفعال أو تصرفات تسبب ضرراً للغير.
إننا نعيش في عالم مليء بالتناقضات التي تبدو أحيانا ككوميديا ساخرة مضحكة، وأحيانا تظهر كتراجيديا تبعث على الغثيان واليأس.
دائمًا ما تُعقد اجتماعات دولية من دول منتقاة بعناية فائقة فى شتى بلدان الغرب حول موضوع الإرهاب فى واقع العالم الحالى؛ تحت جناح ومراقبة الولايات المتحدة الأميركية لتصدر بيانات وتوصيات بشأن مكافحة الإرهاب الذي يتبناه ملالي إيران، وبشأن منع انتشاره على الأخص فى بلدان أوروبا لكنها فى صور مجزأة ومبهمة، ولا يُتعب المجتمعون أنفسهم ولو مرة واحدة بذكر تعريف واضح وشامل لكلمة الإرهاب.
والجدير بالذكر أن تجنب التعريف سيبعدهم عن التطرق إلى إرهاب الدولة الذى يتمثل فى أقصى وأبشع صوره فى شتى أنواع الإرهاب الجسدى والمادى المباشر والإرهاب المعنوي الحقوقي الذى يمارسه نظام الملالي على طول الخط في الداخل وفي الخارج.
ويتجلى التناقض فى العملية الانتقائية التى تذرف دموع التماسيح على الضحايا، ولكنها بتعمد ووقاحة تتجاهل حقوق ضحايا الإرهاب الإيراني، ذلك لأن بعضاً من الحاضرين يتبنون سياسة الاسترضاء تجاه النظام الفاشي الحاكم في إيران ويسهلون عودة المجرم إلى بلاده دون أن ينال جزاء ما اقترفت يداه، وبهذا التجاهل يبدو التناقض واضحاً، من خلال تشجيع نظام الملالي على اقتراف المزيد من الممارسات الإرهابية؛ إذ أن تنديد الحكومات الأوروبية بالإرهاب ما هو إلا واجهة تخفي وراءها هدف إنهاك المعارضين لنظام الملالي في الداخل والخارج، ومن غير الممكن أن يصدق العقل بأن استخبارات الدول الأوروبية عاجزة عن حسم موضوع الإرهاب، على الرغم من أنها تمتلك قدرات تكنولوجية هائلة، تلك القدرات الهائلة التي تتناقض مع النتائج المتواضعة، ويتناقض ذلك الحماس فى البيانات والتوصيات مع التكهنات بأننا سنعيش مع ظاهرة الإرهاب لعقود قادمة.
أوروبا تتعامل مع قضايا حقوق الإنسان بازدواجية
حاولت دول القارة العجوز توظيف ملف حقوق الإنسان لخدمة أجندتها السياسية، وتعميم نموذجها السياسي؛ فلم تكن يوما مطالبات احترام حقوق الإنسان التي تُطلقها الدول الأوروبية والغربية تجاه دول العالم التي تخالف أجندتها السياسية سوى سلاح مزدوج توجهه وقتما شاءت، وحيثما أرادت؛ إذ تمكن المتابعون في أي مكانٍ بفضل العولمة وتطور أدوات النقل المرئي والمسموع، وكذلك وسائل التوثيق والأرشفة ملاحظة وتتبع الازدواجية الأوروبية التي حوَّلت حقوق الإنسان من قيم ذات طبيعة إنسيَّة إلى مجرد أداة يتم توظيفها لممارسة الضغوط ومحاولة السطو على القرار السياسي في دول الشرق، ولا سيما إيران لتحقيق مصالحها على حساب الشعوب.
لطالما صدَّرت أوروبا نفسها للعالم كراعية لحقوق الإنسان، وهو ما يتنافى مع العديد من الشواهد التي تؤكد الواقع الأسود لحقوق الإنسان الأوروبية، والتي يغلب عليها طابع الازدواجية والوظائفيَّة، والدليل على ذلك هو أن أوروبا ترى أن الغاز والطاقة أهم من حقوق الإنسان، ويُظهر الاهتمام الأوروبي بقضايا حقوق الإنسان في بعض الدول الأوروبية باعتبارها من القيم العليا التي لا يُمكن التغاضي عنها؛ ازدواجا واضحا لا سيما بعد إطلاق سراح المجرم الإرهابي أسد الله أسدي لهثاً وراء تحقيق مصالحها في إيران، ومن مؤشرات ذلك تنازلهم عن حقوق الإنسان البيئية، وتراجعهم عن تعهداتهم في حماية البيئة التي دمرها الملالي في إيران، ويُعد التزامهم الصمت تجاه الإفراج عن المجرم الإرهابي أسد الله أسدي مؤشرا مهما على ازدواجية معاييرهم وتقديمهم لمصالحهم على أي شيء، واسترضاءا لملالي إيران الذين حاولوا التوصل إلى اتفاق نووي معهم لهثاً وراء تعويض حصة موسكو من الغاز، وذلك رغم الملاحظات الكبيرة على أداء النظام الإيراني سواء على مستوى حقوق الإنسان أو حتى الملف النووي، ويعني ذلك بشكل أو بآخر أن أوروبا لا تنظر إلا إلى مصالحها، وأن حقوق الإنسان ما هي إلا صورة لتجميل صورة الساسة الأوروبيين سواء أمام ناخبيهم أو المجتمع الدولي.
مصير سمعة القضاء الأوروبي وخاصة القضاء البلجيكي
تعتبر صفقة تبادل الإرهابي أسد الله أسدي برهائن أبرياء تم إحتجازهم ورهنهم للمساومة ولأسباب سياسية صفقة مخزية مليئة بالأكاذيب والخداع وتنطوي على تداعيات سياسية وأمنية لبلجيكا وأوروبا، إذ أن قرار الإفراج عن إرهابي خطير مخالف للقانون مثل أسدي يعتبر استهزاءا بالعدالة وسيادة القانون وأنه جاء كمكافأة على سياسة ابتزاز النظام الإيراني؛ سيشجع على القيام بمزيد من الإرهاب في أوروبا واحتجاز المزيد من الرهائن في المستقبل في إيران، وسيعرِّض كل مواطن أوروبي لخطر الوقوع كرهينة، مثل الكثيرين ممن يُحتجزون كرهائن في إيران اليوم.
والجدير بالذكر أن الإفراج غير القانوني عن أسدي يتناقض مع التصريحات السابقة لوزير العدل (البلجيكي) بأن أي إجراء سيكون وفقا للقانون، وبناءً عليه فإن يوم الإفراج عن المجرم الإرهابي أسد الله أسدي هو يوم مظلم لسيادة القانون، ويلطخ سمعة بلجيكا كدولة تحترم سيادة القانون، ويتعيَّن على الحكومات الأوروبية دراسة جميع الخيارات المتاحة للسعي لتحقيق العدالة في بلجيكا أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فليس هناك مبررا لإطلاق سراح سيد الإرهاب مخطط التفجير قبل 15 عاماً من انتهاء مدة عقوبته.
والحقيقة هي أن الإفراج عن أسدي يرسي الأساس لانتهاك "تحقيق العدالة" وتزايد "التهديدات" ضد معارضي النظام الإيراني، ويُعد ضوءًا أخضر لمواصلة الإجراءات خارج نطاق القضاء والتعذيب و"التهديدات" المتزايدة ضد المعارضين للنظام الإيراني، ويضر بحق الضحايا في العدالة والتعويض ولا يضع حداً لحدوث مثل هذه الانتهاكات مرة أخرى.
ويأتي هذا الإفراج المخزي على الرغم من أن المحكمة الدستورية قد نصت بوضوح في حكمها على أنه يتعين على الحكومة البلجيكية إبلاغ الضحايا قبل نقل المحكوم عليهم حتى تتاح لهم فرصة العودة إلى المحكمة، كما أنه فدية مخزية للإرهاب واحتجاز الرهائن، في انتهاك واضح لأمر المحكمة، وكذلك سيجعل الفاشية الدينية الحاكمة في إيران تواصل جرائمها في القمع الداخلي والإرهاب الإقليمي والدولي، وهنا يجب على بريطانيا وأمريكا وأوروبا اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه النظام الإيراني مع إدراج قوات حرس نظام الملالي على قائمة المنظمات الإرهابية؛ في خضم الكشف عن تمويل الإرهاب، وتوريد طائرات مسيرة من إيران إلى روسيا، والدعوات للمساءلة فضلاً عن محاسبة قوات حرس نظام الملالي على ما تضطلع به من اغتيالات ومؤامرات إرهابية في الخارج.
هذا ويُعد الالتفاف على حكم المحكمة الدستورية في بلجيكا تطورا مقلقا للغاية في وقت أفادت التقارير أن شرطة لندن وأجهزة الأمن البريطانية أحبطت 15 عملية اغتيال وخطف على يد النظام في المملكة المتحدة. وبقرارها هذا تكون الحكومة البلجيكية قد خذلت ضحايا إرهاب الدولة الإيراني وأضعفت جهود أوروبا المشتركة لمحاسبة النظام على أفعاله ودعمه للإرهاب، وسيقود هذا بالتأكيد البعض في طهران إلى اعتبار التبادل نموذجا لحماية إرهابيي نظام الملالي من العدالة
ومن المؤكد الساسة أن الأوروبيين لا يعيرون اهتماماً للتناقض بين ما يدعون وما يفعلون، إذ أن شغلهم الشاغل هو تحقيق مصالحهم بشتى الطرق الأخلاقية واللاأخلاقية.
د. سامي خاطر / أكاديمي وأستاذ جامعي