هاني مسهور يكتب:
ترامب: القوة أولا.. التفاوض لاحقا
السياسة ليست ميدانا للتفاوض التقليدي أو تقديم التنازلات المتبادلة، بل هي ساحة للصراع المستمر على المصالح والقوة، وإذا كان هناك شخص يجسد هذه الرؤية في السياسة الدولية، فهو دونالد ترامب، فالرجل لا يرى في العلاقات الدولية سوى حلبة ملاكمة، حيث يربح الأقوى لا الأكثر دبلوماسية، في عالم ترامب، لا توجد حلول وسط، بل فقط فرض للإرادة، وخلق أزمات للتحكم بها، وإجبار الخصوم على تقبل شروطه كخيار وحيد.
ترامب، العائد إلى المشهد السياسي في 2025، يكرر أساليبه القديمة لكن بجرأة أكبر، واضعا العالم أمام معادلة جديدة، حيث لا استقرار دائم، بل نزاعات يتم توظيفها لتحقيق مكاسب مرحلية، في هذا السياق، يتجلى تأثيره على النظام الدولي عبر ثلاثة محاور رئيسية: الضغط الأقصى، الاستثمار في الأزمات، وتحويل عدم الاستقرار إلى إستراتيجية دائمة.
منذ أيامه الأولى في البيت الأبيض، أثبت ترامب أنه لا يتفاوض على الطريقة التقليدية، لا يؤمن بالتسويات، بل يدفع خصومه إلى الزاوية قبل أن يعرض عليهم “الصفقة التي لا يمكنهم رفضها”، في كوريا الشمالية، بدأ بتهديدات نووية مباشرة، ثم فاجأ العالم بلقاء تاريخي مع كيم جونغ أون، لم يكن الهدف حل الأزمة النووية، بل إعادة تشكيل معادلة القوة في شبه الجزيرة الكورية.
اليوم، يستخدم الأسلوب ذاته في الشرق الأوسط، حيث يعيد تشكيل ملف التطبيع السعودي – الإسرائيلي بأسلوب غير مسبوق، إدارة بايدن حاولت المضي في الاتفاق وفقا للشروط السعودية: مفاعل نووي مدني، اتفاقية دفاعية، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية، لكن ترامب، كعادته، قرر تغيير قواعد اللعبة، بدلا من المفاوضات المتدرجة، ألقى بقنبلة سياسية: تهجير الفلسطينيين من غزة كحلّ محتمل، لم يكن هذا الاقتراح مجرد فكرة عابرة، بل أداة ضغط لإجبار السعودية على مراجعة أولوياتها، وجعل التطبيع خيارا أمنيا وليس مجرد صفقة سياسية.
في عالم ترامب، الأزمات ليست كوارث يجب حلها، بل أدوات يمكن استغلالها، ففي أوكرانيا لم يتخذ موقفا واضحا، بل ضغط على الجميع، حتى حلفاء واشنطن، ليجعل استمرار الحرب مكلفا لهم اقتصاديا وسياسيا، الآن، يستخدم النهج ذاته في الشرق الأوسط، حيث يرفع منسوب القلق حول مصير الفلسطينيين، ليضع السعودية أمام خيار صعب: إما قبول التطبيع وفق شروط أميركية – إسرائيلية، أو مواجهة أزمة إنسانية وسياسية تهدد استقرار المنطقة بأكملها.
هذا التكتيك لا يقتصر على السعودية، فهو يعلم أن مصر والأردن لا يستطيعان تحمل موجات جديدة من اللاجئين الفلسطينيين، كما يدرك أن أي تهجير قسري سيفجر الغضب الشعبي في العالم العربي، لكنه لا يسعى لحل القضية الفلسطينية، بل يريد إعادة صياغتها بشكل يخدم مصالحه، بهذا الشكل تصبح الأزمات الإقليمية ليست مشكلات تحتاج إلى حلول، بل روافع ضغط يمكن استخدامها لتحقيق مكاسب أكبر.
الاختلاف الجوهري بين ترامب ورؤساء الولايات المتحدة السابقين، أنه لا يسعى لتحقيق استقرار طويل الأمد، بل على العكس، يرى في خلق عدم الاستقرار المستمر وسيلة لتعزيز النفوذ الأميركي عالميا، هذا ما فعله مع إيران، حيث انسحب من الاتفاق النووي ليعيد فرض سياسة “الضغط الأقصى”، مما أدى إلى تصعيد مستمر بدلا من التوصل إلى تسوية دبلوماسية.
الآن، يستخدم التكتيك ذاته مع السعودية وإسرائيل، بدلا من تقديم ضمانات دائمة للمملكة، يفضل إبقاءها تحت الضغط المستمر، عبر تصعيد التهديد الإيراني، وخلق حالة من عدم اليقين حول الدعم الأميركي، بهذه الطريقة، يضمن أن التطبيع مع إسرائيل لن يكون مجرد خيار دبلوماسي، بل ضرورة أمنية.
إذا كان هناك شيء واحد أكيد في السياسة الدولية، فهو أن الفوضى لا تبقى محصورة في إطار معين، بل تمتد لتغير قواعد اللعبة بالكامل، نهج ترامب لا يعيد تشكيل الشرق الأوسط فقط، بل يؤثر أيضا على النظام الدولي ككل. هذا التأثير يتجلى في ثلاث نقاط رئيسية: صعود النزعة القومية على حساب العولمة، حيث أصبحت الدول أقل اعتمادا على المؤسسات الدولية، وأكثر ميلا لحماية مصالحها عبر تحالفات تكتيكية مؤقتة، السعودية قد تبحث عن شركاء جدد مثل الصين وروسيا، وهو ما يضعف النفوذ الأميركي على المدى الطويل، تحول الأزمات إلى أدوات سياسية دائمة، حيث بدلا من حل النزاعات، تتم إدارتها بحيث تظل قابلة للاشتعال عند الحاجة، ملف القضية الفلسطينية مثال صارخ على ذلك، إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، فلم يعد العالم يسير وفق منطق الأحادية القطبية التي تقودها واشنطن، بل يتجه نحو تعددية قطبية غير مستقرة، حيث تلعب القوى الإقليمية دورا أكبر في تحديد مصيرها.
ترامب يعيد كتابة قواعد السياسة الدولية، لكن السؤال الأهم: هل ستنجح هذه الإستراتيجية على المدى الطويل؟ إذا استمرت الولايات المتحدة في استخدام الأزمات كورقة ضغط، فقد تجد نفسها في مواجهة نظام عالمي جديد لا يخضع بالكامل لنفوذها، الفوضى قد تكون مفيدة في مرحلة معينة، لكنها ليست وصفة للهيمنة الدائمة.
ترامب ليس مجرد رئيس أميركي، بل هو رجل أعمال يحكم بمنطق السوق: رفع المخاطر، تضييق الخيارات، ثم عقد الصفقات وفقا لمعادلة “الرابح الوحيد”، لكن في السياسة، حيث المصالح متشابكة، قد يتحول الرابح اليوم إلى الخاسر غدا، وحدها الأيام القادمة ستكشف إن كان ترامب قادرا على إعادة تشكيل النظام الدولي، أم أن الفوضى التي يخلقها ستنقلب عليه.