صانعة التغيير
النخب الجنوبية في ميزان الأداء
النخبة هي صانعة التغيير ، وحاملة مشاعل التنوير ، وقائدة الجماهير ، يفزع الناس إليها إذا أدلهم الخطب ، وحلت النوازل ، فإليها ينتهي الرأي ، ومنها تأخذ العوام المشورة ، فالتجربة اكسبتها بصيرة ثاقبة ببواطن الأمور ، وأورثتها القدرة على قراءة الحاضر ، و التنبؤ بمآﻻت المستقبل .
هذا هو التوصيف العام للنخبة ، سواء أكانت سياسية ، أو فكرية ، أو ثقافية ، في أي مجتمع من العالم .
ترتقي المجتمعات برقي هذه الفئة ، وتنحدر في غياهب التيه ، ودركات الانحطاط بسقوط هذه الفئة ، وتظل مؤشرا لصعود المجتمعات ، أو هبوطها .
من يقرأ تاريخ الجنوب السياسي المعاصر ، ويمعن النظر في أحداثه ، سيرى أن نخبه السياسية ، والفكرية ، والثقافية هي سبب مأساته ، وهي منبع آفاته وأمراضه ، فحين أضفينا لقب سياسي ، ومثقف ، ومفكر وغيرها من المسميات ، على ذوات بشرية يدمي السؤال حياءا حين تسأل عن خلفياتها ، وتعصر قلبك الشفقة ، عند الوقوف على حقيقته ، فالقائد الذي يشار إليه بالبنان ﻻيغسل فاه الذي تركه مرتعا للجراثيم ، وﻻيعرف الماء إلى جسده سبيلا ، والمفكر ﻻيحسن الحديث بغير العامية ، وإذا تجشم الصعاب وتحدث باللغة الفصيحة تراه وكأنه ينحت في الصخر ، يعاني أكثر مما تعانية المرأة من الآم المخاض ، ومثله حال الكاتب أو المحلل الذي سود بياض الصحائف بما يدور على طاوﻻت المقاهي الشعبية ؛ فظلمنا بنتاجه الهزيل ، وظملناه حين أضفينا عليه لقب ﻻيقوى المسكين على حمله .
حين تسقط النخب ، يسقط نتاجها الفكري ، ويتردئ أدؤها السياسي ففاقد الشيئ ﻻيعطيه . فقد أفرزت لنا المراحل المتعاقبة أشكالا متعددة من القادة السياسيين ، الذين ﻻيحسنون اللعب إلا في حيز محدود بعلامات ومنائر حددت لهم سلفا قبل خوض غمار المعركة ، هذا الحيز الضيق الذي ﻻيتسع لأكثر من منطقة أو قبيلة ، فتخوض معركتها الصغيرة باسم الوطن ، الذي تكثر من ذكره ، و ﻻتعرف رسم حروفه ، فأنى لها معرفة آماله وتطلعاته !
ذهب الجنوب بجراحه ، وتضحياته ، ضحية لطبقة الحواة البليدة التي لم ترفع رأسها إلى لسماء ؛ فحرمت رؤية الثريا والنجوم المتلألأة ، وأكتفت بالنظر للثرى ؛ تمتع به الأبصار كأسهل مطلوب، وأقرب موجود .
نخب اختزلت معركتها في رفع علم الجنوب ، ونسيت أن رفع الخرقة ﻻيغنى عن المصالح ، و ليس ثمنا للتضحيات .
نخب جعلت من رفع علم الوحدة على سارية من سواري معسكرات عدن قضية ، كقضية زيارة علي محسن الأحمر لعدن في حين يتفانى من حرضها في خدمة هذا العلم ، بعد أن اقسم بالله إيمانا مغلظة على خدمته والتفاني في سبيله ، في تناقض يشبه إلى حد كبير تهافتهم على باب علي محسن الأحمر لزيارته في بيته في حين ﻻيرون زيارته لهم، فمحسن ﻻيتحرج من استقبالهم فلماذا يتحرجون من استقباله ؟ لتعلم أن القوم يمارسون ظاهرة نفاق نادرة ، و فريدة ، لم يعرفها مجتمع النفاق الأول - من حيث السلوك - الذي سطر الله تعالى فيه قرانا يتلى آنا الليل وأطراف النهار .
لم تسمع هذه النخب أصوات الأمعاء الخاوية ، وﻻ صخب أصوات المرضى ، وﻻ أنين الثكالى ، وعويل الأرامل واليتامي ، ولم تجعل منها قضية رأي كما فعلت من رفع علم الوحدة على سارية المعسكر ، وزيارة محسن لعدن التي لم ينوي زيارتها أصلا .
ذهبت تتبادل التهم فيما بينها ، وانبرى كل فريق للدفاع عن قبيلته الصغيرة ، أو منطقته ، فالحيز المسموح له بالحركة فيه ﻻيتعدى هذه المستعمرة الصغيرة .
احترمت نخب الشمال التي نوصفها ليلا نهار بالمتخلفة ، حين انتزعت مصالحها ، في الوقت الذي لم ترفع من شأن صديق ، ولم تحط من شأن عدو ، إلا بقدر ، فلم تفرط ولم تفرط .
بدأ الشمال أكثر تنظيما في ميزان العمل ، وبدأ الجنوب أكثر تشظا ، وتمزقا وأن رفع الصوت بشعار التصالح والتسامح الذي كذبته الممارسة ، وشعار نبذ المناطقية الذي يناقضة العمل .
تماسك الشمال رغم تعدد مذاهبه ، واختلاف أحزابه ، لكن سلوكياتهم لم تشذ عن القاعدة البرجماتية العريضة للسياسة ( المصالح ) المصالح التي نتناولها في حياتتا كقيمة دونيه في واقع الأقوال ، وندق رقاب بعضا بعضا عليها في واقع الأفعال .
فهاهي الحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وتلوح في الأفق بوادر تسوية أقليمية ، وتقارب دولي ، مع اقتراب الحل لمعادلة الشرق الكبيرة صنعاء مقابل دمشق ، فماذا كسبنا ؟ وماذا خسرنا؟ في رحلة خضنا غمارها على متن قارب أرخى خطامه للريح توجهه حيث تشاء ، ومتى تشاء ؟