علي عبيد يكتب:

زفرة العربي الأخيرة

سواء أكانت الرواية صحيحة، أم أن المشهد كان من تأليف الأسقف أنطونيو كيفاران للحصول على حظوة عند كارلوس الخامس، ملك أسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة المعروف باسم شارلكان، والذي حكم إمبراطورية مترامية الأطراف موزعة على ثلاث قارات، فإن العار لحق بأبي عبدالله محمد الثاني عشر، آخر ملوك بني الأحمر، المعروف بأبي عبدالله الصغير، الذي سلم غرناطة، آخر معاقل العرب والمسلمين في الأندلس، إلى الملكين فرديناند وإيزابيلا، في لحظة تاريخية ما زالت تلهب خيال الكتاب والشعراء، كلما أرادوا أن يستعيدوا مجداً غابراً، قضت عليه النزاعات الداخلية والحروب الأهلية الطاحنة، إذ تزعم الرواية أن أبا عبدالله الصغير لمّا سلم مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين، بعد أن وقع صك التنازل عن مملكته، وهمّ بمغادرة المدينة مع أهله وحاشيته، صعد ربوة تطل على غرناطة، فتذكر مجده ومملكته التي زالت على يده، وزفر زفرة تنم عن ألمه وحسرته على ضياع ملكه وملك العرب والمسلمين بالأندلس على يديه، ثم أجهش بالبكاء، فهتفت به أمه عائشة الحرة قائلة مقولتها الشهيرة التي ذهبت مثلاً: «ابكِ مثل النساء ملكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال».

أيًّا كانت صحة رواية ذلك الأسقف أو كان خطأ تلك الرواية، فقد أصبح اسم «زفرة العربي الأخيرة» يطلق على ذلك الممر الجبلي الذي يقع بالقرب من مدينة غرناطة في أسبانيا، مذكراً بتلك اللحظة التاريخية البائسة من تاريخ العرب والمسلمين، رغم أن هناك مواقف خالدة لبعض شهود تلك الليلة المشؤومة من ليالي غرناطة، لم يركز عليها المؤرخون كثيراً، لأنها لم تغير من الأحداث شيئاً، وإن كانت قد سجلت لأصحابها بطولة كان أهل غرناطة بحاجة إليها، كي لا يظلم التاريخ أهل غرناطة كلهم، ويضعهم جميعاً في سلة واحدة، فينصف من قاوم فكرة الاستسلام للأسبان منهم، مثل موقف موسى بن أبي الغسان، ذلك الفارس العربي المسلم الذي اهتم به المؤرخون الأسبان وتتبعوا أخباره، في الوقت الذي تجاهلته المصادر التاريخية العربية ولم تهتم به كثيراً، فكان حضوره في الرواية الأسبانية طاغياً، كنموذج للفارس النبيل الذي يمثل البقية الباقية من روح الفروسية العربية المسلمة.

كما أنصفه الكاتب المصري الراحل محفوظ عبد الرحمن، في مسلسل «ليلة سقوط غرناطة» الرائع، فمنحه مساحة كبيرة من ذلك المسلسل الذي تناولت أحداثه آخر ليلة من ليالي غرناطة المنكوبة، فسجل له مواقفه المشرفة في مقاومة فكرة الاستسلام للأسبان ورفضه لها، حتى أدرك في المشهد العاشر من الحلقة الأخيرة من المسلسل أن مصيرهم لم يعد في أيديهم، وأنهم لم يعودوا يملكون حلماً واحداً، فخرج لمحاربة الأسبان وحده دون أن يخبر رجاله، والتقى ببعض أنصاره، وقال لهم كلمات ذات دلالة، منها: «إذا تمزق الثوب فلا ترتقوه، وإذا جف الفرع فاقتلعوا الشجرة، وإذا همس الشيطان لكم اقطعوا آذانكم، وإذا أردتم أن تتدفّؤوا فأشعلوا النار في العالم كله».

وإذا كانت المقاومة يومها نوعاً من العبث، كما يذكر المؤرخون، بعد أن انهارت دفاعات غرناطة، وأهلك أهلها الحصار، إلا أن موسى بن أبي الغسان رفض فكرة الاستسلام التي قبلها أبوعبدالله الصغير ومن حوله قائلاً: «لنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه خير لي أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها».

وتقول الروايات إنه غادر مجلس أبي عبدالله الصغير، الذي وافق على الاستسلام، يائساً حزيناً وذهب إلى بيته، فلبس لباس الحرب وامتطى صهوة جواده، واخترق شوارع غرناطة ولم يره أحد بعد ذلك.

لكن المؤرخ المصري محمد عبدالله عنان، المتخصص في مجال الدراسات الأندلسية، يورد رواية لمؤرخ أسباني حاول أن يلقي فيها الضوء على مصير فارس غرناطة البطل، فذكر أن موسى التقى بعد خروجه من غرناطة على ضفة نهر «شنيل» سَرِيّة من فرسان الأسبان فانقض عليها قتلاً وطعناً في بسالة نادرة، حتى أصيب بجرح نافذ وسقط جواده من تحته بطعنة رمح، لكنه لم يستسلم وراح يدفع عن نفسه مهاجميه بخنجره حتى خارت قواه، ولمّا كانت نفسه الأبية لا تطيق الوقوع في الأسر، فقد ألقى بنفسه إلى النهر، مسجلاً موقفاً بطولياً كان العرب والمسلمون بحاجة إليه، في تلك اللحظة التاريخية البائسة.

كيف عاش المسلمون الذين بقوا في أسبانيا، وأطلق عليهم الأسبان «الموريسكيون» بالقشتالية؟ وكيف أصبح حالهم تحت حكم «فرديناند وإيزابيلا» بعد سقوط غرناطة، في ظل العهود التي كتبها على نفسيهما الملكان الأسبانيان، وتحت المواثيق التي وقّعاها، هما وابنهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء، وأقسما بدينهما وشرفهما الملكي أن يحتفظ الموريسكيون بدينهم وممتلكاتهم، وأن يخضعوا لمحاكمة قضاتهم حسب أحكام قانونهم، وتفاصيل أخرى احتواها التعهد؟ تلك أسئلة نجد أجوبتها في كتب التاريخ التي تروي كيف تم تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، وكيف تم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية، وكيف تم تنصير المسلمين ثم تهجيرهم، وكيف نُصِبت لهم محاكم التفتيش في كل مدينة وقرية، وكيف تم إحراق الكثيرين منهم بتهمة السحر والهرطقة، وتُهم أخرى كان يؤلفها لهم المحققون وموظفو الديوان ويتفننون في اختراعها.

ومن هذه الكتب التي وثقت الأحداث التي تلت سقوط غرناطة، يغترف الشعراء والكُتاب لينسجوا لنا روايات تضعنا في قلب تلك الحقبة، وتجعلنا نستعيد «زفرة العربي الأخيرة» حتى لو لم تكن حقيقة تاريخية مؤكدة.