
نهى الصراف يكتب:
جلسات عزاء برلمانية
انتهت الانتخابات البرلمانية في العراق الأسبوع الماضي، ثم نُصبت سرادق العزاء للسيدات والسادة الذين سقطوا سهوا من عربة السباق؛ بعضهم وجوه جديدة حاولت آلة الدعاية المسعورة تلميع سحناتها من دون جدوى، ثم بقية من ملامح قديمة مكفهرة لم تسمح المفاجآت بإعادة تدويرها، ملامح عفا عليها زمن الخراب المستديم في أرض العراق الطاهرة.
أغلب أصحاب سرادق العزاء المولولون على مجد مضى بربح وفير ظنوا أنه سيدوم حتى زمن أحفاد الأحفاد، ندبوا حظهم بعد أن خذلتهم أصوات الناخبين التي غابت في صدور الناس صمتا ثم غضبا وقلّة حيلة. وكانت بعض سيدات البرلمان المتنحيات عن عروشهن، سبّاقات في نصب جلسات العزاء عبر منافذ الصراخ والعويل المتوفرة، ثم افترشت غالبيتهن عباءة الخذلان والانكسار وراحت تنوح من منبرها على تويتر وفيسبوك، في مشاهد غريبة تذكر بجلسات عزاء السيدات المسنات في الريف اللاتي كن يضعن الطين أو التراب على ملامحهن ويقطعن ملابسهن، كلما اتقدت الذاكرة بصورة الفقيد وتسابقت معها مشاهد الخسارات والخذلان.
ما لفت انتباهي أكثر في هذه المسرحية الهزلية، أن بعض النادبات وجهن نيرانا سليطة من فلتات لسان وشتائم إلى أبناء الشعب المنكوب باعتباره ناكرا للجميل، تخلى عنهن في لحظات حاسمة من تاريخ السلب والنهب، شعب خانته ذاكرته التي لم ترصّ جيدا في ممراتها السرّية إنجازات البرلمانيات الفذة في تحسين معيشة المواطن الجاحد وإدامة نعيم نهاراته، مع إصرار السيدات الوقورات على الكذب على الناس وتصديق كذباتهن.
ومع ذلك، لن أقع في فخ السطحية فأستشهد بمقولة “اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس”، إذ أنني أميل أكثر إلى فصاحة الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو وطريقة قراءته لحالات انهيار نفسي وقيمي مشابهة، حين كان يقول “لقد لاحظت أن الناس الأشرار يشكلون في الغالب جبهة مشتركة حتى لو كانوا يكرهون بعضهم بعضا، بينما الناس الطيبون أكثر انقساما، ولهذا السبب بالذات هم أكثر ضعفا”. فإذا كانت الساحرات الشريرات المتنحيات عن عروشهن قد اجتمعن في جبهة نواح واحدة على الماضي الذي لن يعود، فلماذا يبدو أن الجمهور يستعذب ضعفه وانقسامه في اللحظة ذاتها التي بدأت فيها خيوط رقيقة من الضوء محاولاتها الخجولة بالظهور في نفق ضياعه الطويل؟ ولماذا هذا الانقسام والضعف ما دامت الفرصة مواتية والعدو يبدو هشا وقابلا للانكسار؟
بعد أن انفضت حفلات الدعاية الانتخابية وطارت الأموال التي أنفقت عليها في داخل وخارج العراق، التي كان من الممكن أن تؤسس لمرافق خدمية كثيرة لا عدّ لها ولا حصر، أو تصبح مصادر رزق لملايين الفقراء. تحولت بقدرة طبيعة غاضبة ورياح عاصفة وطقس حلّ ضيفا غريبا على العراق، من مجرد إعلانات وملصقات شوهت الشوارع والأرصفة، إلى قمامة ورق حيث تكفل غضب السماء بتحويلها إلى أوراق شجرة يابسة باغتها خريف في منتصف الربيع، ثم تداول الفقراء بقيتها واستثمروا قواعدها الحديدية والخشبية ليقايضوه بطعام يقوّم أودهم ويعينهم على سنوات مقبلة من الجوع والظلم.
هكذا، يبدو أن الناس أكثر ضعفا من عدو بمستوى ورق شجر يابس في ريح عاصفة؛ عندما يجلسون في ظل الاتكال وهم ينتظرون أمهم الطبيعة الغاضبة لتتولى عنهم مهمة تقويض أسس الفساد وتوفير لقمة عيشة يابسة، يابسة ومغمسة بملح اليأس!