ماجد السامرائي يكتب:
مظاهرات العراقيين اليتيمة
لم يكن متوقعا أن تؤدي مظاهرات محافظات الوسط والجنوب العراقي إلى ثورة شعبية تعلن البيان الأول لإسقاط النظام خلال أيام وهو الممتلك لأدوات القمع القوية، والمستند على ظهير خارجي قوي.
ومن المعروف أن جميع تدريبات القوات الأمنية الحكومية من قبل الجيش الأميركي كانت على كيفية مواجهة الشغب وقمع التظاهرات وتداعياتها، وجهاز مكافحة الإرهاب هو الأكثر اقتدارا في هذا الميدان، إضافة إلى قوات الحشد الشعبي المنتظمة تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، أو تلك الميليشيات التي لها مرجعياتها الحزبية والدعوية الخاصة.
هذه المظاهرات الواسعة هي أعلى درجات التعبير السلمي والاستفتاء الشعبي الرافض للمؤسسة السياسية الحاكمة، وهي ردّ حقيقي على جميع الاتهامات التي توجه لشعب العراق بأنه قابل للذل والعبودية، وأنه هو الذي انتخب تلك الزعامات فلماذا ينتفض ضدها؟
مثال بسيط يرّد على هذا الافتراء، لو شبّهنا الحالة بعائلة مكونة من أب وأم وأولاد، هؤلاء الأولاد يحرمهم والدهم من أبسط متطلبات الحياة وهو يلعب بملايين الدولارات التي يسرقها بطرق مختلفة، أليس من حقهم الثورة والانتفاضة بوجهه، أم أن تقاليد الأبوة تمنع ذلك، الأحزاب لم تفاجئها الانتفاضة ضدها، وكذلك رئيس الحكومة، لكن المفاجأة كانت بشموليتها غالبية محافظات الوسط والجنوب خصوصا البصرة، المتضررة من الحيف والظلم الأكبر إلى جانب محافظات النجف وبابل والمثنى والناصرية والعمارة.
شباب هذه المحافظات وصلوا إلى درجة عالية من الغضب الجماعي بسبب تراكم الإحباط وكشفوا عن الوقيعة والخيانة اللتين ألحقتهما بهم الأحزاب الدينية. ميزة هذه التظاهرات أنها يتيمة دون أب بعثيا لها أو داعشية، ولا إخوان سنة أو أكرادا ولا عشيرة عربية، الجميع صامت إما لهول الصدمة وإما لحسابات انتهازية رخيصة.
بعض الناشطين في هذه الانتفاضة الوطنية هم طلائع من بين الشباب الغاضب تميّزهم عن الآخرين قدراتهم الثقافية والتنظيمية، ولا أجندات أو خلفيات تحركهم من تنظيمات معادية للعملية السياسية، لأن هذه المؤسسة الحاكمة تعتقد أنها مقدسة وأحزابها جاءت لتنهي قصة المعارضة السياسية في العراق ومن يعارض إما بعثيا وإما داعشيا.
كانت استراتيجيه المواجهة مع هذه المظاهرات تشتمل على وسيلتين سياسية وأمنية لوجيستية. وقد اختفت الأحزاب التي يدور حولها الغضب الشعبي العام خلف رئيس الحكومة حيدر العبادي وتركت له إدارة الأزمة، ولا يهم تلك الأحزاب مدى قدرته أو عدم قدرته على الخروج بسلامة من وَحَلِها، فغالبية قادة هذه الأحزاب يتربصون بنهايته وعدم التجديد له بولاية ثانية، أما هو فقد وجدها آخر فرصة لمنازلة خصومه والتعبير عن قدراته، معتبرا نفسه أحق من غيره وهو الذي كسب المعركة ضد داعش العام الماضي.
كانت غاية العبادي ومعه جميع أحزاب الحكم تجريد التظاهرات من دوافعها وأهدافها في فضح السياسات التي قادت العراق إلى ما هو عليه اليوم، وتجريد تلك المظاهرات من التسييس وحصرها في مطالب خدمية والإعلان عن العزم على تلبية مرحلية لتلك المطالب.
فالتسييس يضيّق الخناق على الأحزاب لأنها فشلت، وهي لا تريد الاعتراف بهذا الفشل، كما أن ذلك يحرج رئيس الحكومة باعتباره ممثلا للحزب الذي قاد السلطة السياسية منذ 12 عاما. ولهذا ترجم حيدر العبادي في إجراءاته وخطابه الإعلامي مخطط العزل ما بين السياسي والخدمي عبر عدة رسائل، من بينها اتهامه لغالبية المحتجين من أبناء الشعب العراقي بـ“الجهلة”، وهو توصيف غير موفق وفيه إهانة للعراقيين. فالجهل الذي أصابهم مسؤولة عنه الأحزاب التي حكمت العراق منذ سنوات ما بعد 2003.
أما المندسون فقد يكون صحيحا تغلغل البعض داخل هذه الاحتجاجات الكبرى، وهي حالة قد تحدث في مجتمع بحالة غليان، ولا شك أن قوى خارجية تسعى لاستثمار هذا الحدث لمصالحها ومن بينها إيران الباحثة عن مصالحها على حساب مصالح العراق، ولكن الهدف المقصود من هذا التقسيم لطبيعة المظاهرات بين “مدسوس وجاهل” هو إبعاد الضوء عن أزمة الحكم الحقيقية، ثم تبرير قمع التظاهرات وتعريض بعض شبابها للقتل أو الإصابات أو الاعتقال.
ميزة هذه المظاهرات أنها يتيمة دون أب بعثي لها أو داعشية، ولا إخوان سنة أو أكرادا ولا عشيرة عربية، الجميع صامت إما لهول الصدمة وإما لحسابات انتهازية رخيصة
رئيس الحكومة يعتقد أنه داخل هذه المظاهرات ساحة صراع سياسي محتدم بين أحزاب السلطة وبين خصومها، وأن هؤلاء الخصوم حسب قوله “خسروا الجولة السابقة مع الحكم ويحاولون اليوم الدخول في جولة جديدة”، وهذا تفسير يوجه سهام الاتهام للنظام السياسي القائم، ألم يجد أولئك الخصوم المفترضين الأبواب والساحة مفتوحة أمامهم بسبب التهميش والحرمان والبطالة وانعدام الخدمات لأبناء الشعب، ثم لماذا لم تؤخذ الدروس من احتلال داعش لأكثر من ثلث الأراضي العراقية، والتي أصبحت أسبابها معروفة للجميع، ثم أليس الخصوم هم المحرومون من ثروات العراق التي قدّرت بألف مليار دولار خلال 15 عاما.
على المستوى اللوجيستي تتعاطى الحكومة مع المتظاهرين بأدوات قمعية لا تمتُّ بصلة للنظام الديمقراطي ولمبادئ حقوق الإنسان، فتم قتل ثمانية شهداء وجرح المئات، واستخدمت الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه، وعلى المستوى الإعلامي هناك تعتيم متعمّد على أخبار المظاهرات، ونقل حوادث تحطيم مقرات بعض الأحزاب الموالية لإيران باعتبارها اعتداء على الممتلكات العامة، ورغم ذلك فلا يجوز التعرض لتخريب الممتلكات العامة العائدة للشعب، والمندسون الحقيقيون الذين لديهم مصلحة في شيطنة المظاهرات هم وراء محاولات التخريب، كما تم توجيه مذكرات إلقاء القبض على سبعة صحافيين يغطون أخبار تلك التظاهرات بمخالفة صريحة للدستور وتم قطع الإنترنت لعدة أيام.
هذه المظاهرات “اليتيمة” قد يتم إخمادها بالقوة، ووفق توقعات بعض السياسيين الحكام ومواليهم بأنها لا تحتاج أكثر من الإجراءات الأمنية التي اتخذها العبادي، فلا حاجة لقوات الحشد الشعبي، لأن تلك القوات مصممة للأكثر تهديدا، فالشباب سيتعبون وتنتهي هذه الانتفاضة ولذلك يطالب هؤلاء السياسيين بالإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة، ولكن هذه حسابات فاشلة لأن دماء المنتفضين من شباب البصرة والنجف والمثنى لا يمكن أن تذهب قربانا للفاسدين والسراق، ما حصل في هذه الموجة العالية من التظاهرات قد وضع الأحزاب أمام خط الافتراق مع الجماهير.