نهى الصراف تكتب:

الشهد والدموع

لم يتغير الناس كثيرا؛ الشوارع هي ذاتها، البيوت، الأمهات، الفاقة، الوجع، الصراع بين الأجيال، ثم الميزان الأعوج الذي يحكم في الخلاف الأزلي بين ثنائيات الفقر والغنى، الحق والباطل، الخير والشرّ. من تغيّر، مرآة الواقع التي أصابها شرخ كبير، إذ أن الفن الذي ينقل صورة الشارع إلى الشاشة، لم يعد أمينا وصار مراوغا وماكرا، يبتسم فتتساقط الدموع من عيون الناس ثم يبكي فتنطلق ضحكاتهم.

هكذا هو، فن لا يصل إلى أبعد من جدران غرف كتّاب ومؤلفي الدراما، لكنه إن عبرها فهو ينطلق في تشويه الواقع ليخلط بين الشهد والدموع ويخرج في توليفة سمجة، لا تأخذ من الشهد سوى لذعة من حلاوته المرّكزة ولا تجني من الدموع سوى طعمها المالح المج.

اليوم، شاهدت مقطعا لحوار مع الفنانة عفاف شعيب في جلسة استذكار لأبطال مسلسل “الشهد والدموع”، المسلسل الذي كان في وقت إذاعته للمرة الأولى قبل ثلاثين عاما.. يفرغ الشارع المصري وبعض الشوارع العربية من سكانها.. بسبب تسمرهم أمام شاشات التلفزيون. تعرضت شعيب في وقتها إلى مواقف عدة كان بعضها طريفا خاصة عندما كانت تلتقي جمهورها في الشارع.

مرة، أوقفتها سيدة أربعينية وسلمت عليها، ثم قالت لها “على فكرة.. أنا أرملة.. أرملة جديدة.. لسه زوجي متوفي.. وحجيب ماكنة خياطة وحشتغل.. وحربي أولادي.. واعمل زي حضرتك ما عملتي!”.

كان هذا الحوار بمثابة تكريم من جمهور الفنانة، رسالة تقول لها بأن الأداء الرائع وتقمصها للشخصية كانا متفردين لدرجة كبيرة، حتى أن الجمهور صار يخلط بين شخص الفنانة والشخصية التي جسدتها في المسلسل.

طبعا عفاف لم تكن وحدها، فقد كان يقف خلف كواليس المسلسل الربّان الرائع إسماعيل عبدالحافظ وأهم منه، كان الراحل أسامة أنور عكاشة الخالق الحقيقي للشخصيات وهو بالتأكيد أول من تقمص روح الشخصيات ورسمها ببراعة على الورق، لتتحول إلى بشر من دم لحم عاشت مع جمهور الشاشة القصيرة على مدى عامين وكأنها تسكن في الشارع المقابل، فكان يسمع أصوات شجارها وقهقهاتها في لحظات صفاء نادرة، جمهور كان يخاف أن يغمض عينيه خشية أن يفوته مشهد أو ابتسامة أو دمعة من (الست زينب) وأولادها وبناتها.

يمكن أن تكون عفاف شعيب قد أجادت الدور لكونها زوجة وأمّاً، فتداخلت عندها المشاعر واختلطت بالشخصية المرسومة على الورق، لكن كيف يا ترى تقمص الكاتب أسامة أنور عكاشة شخصية السيدة الأرملة وحفر مشاعرها على الورق بهذا العمق؛ وهو رجل كان يعيش أغلب أوقاته بين الورق والكتب؟.. أكيد أنه التقى هذه الشخصية أو ما يقترب منها بصفاتها؛ عند الجيران أو الأقارب أو قرأ عن قصتها في كتاب ما وربما خَرجت من مختبر إبداعه خليطا من مجموع شخصيات، لكن، من أين له أن يعرف كيف تفكر وكيف تشعر.. ما الذي يفرحها أو يعكر مزاجها؟

الإجابة المعقولة تقول بأنه كان مبدعا وصادقا، وعندما يجتمع الإبداع والصدق يخرج إلى الحياة مولودهما الرائع؛ عمل  فني خالد بحجم “الشهد والدموع”.

كل من يشتغل في حرفة الكتابة.. لديه وكالة افتراضية تمكنه من أن يرسم حياة الآخرين بحرفية ووعي، حتى من دون موافقتهم، فيغور عميقا في الغرف المظلمة لحياتهم النفسية وهو ممسك بمصباحه، مثل حارس مغارة، يسلط الضوء عليها فينيرها ويكشف عن المستور، ثم يقوّل أصحابها ويدفعهم للإفصاح عن مشاعرهم، مخاوفهم، وقلقهم. ولن يتبقى له بعد ذلك سوى، أن يخرج جروحهم، يزيل عنها الخراج، ينظفها ويطهرها ثم يعيدها إليهم.