نهى الصراف تكتب:

نزهة في الجنوب الفرنسي

حصلت قبل أيام مع وجبة الإفطار، على أحدث نكتة سوداء، كانت مترعة بعصير طازج رغم أنها وصلتني من أرض كل ما فيها مهدد بالجفاف.

النكتة تقول إن “تظاهرات البصرة تدار من فرنسا!”.

ما عبّر عنه مسؤول “رفيع″ المستوى في مدينة البصرة جنوب العراق، يرتقي إلى مرتبة الطرفة المغمسة بحزن معتّق، حزن ما زال يلامس قلوبا تعيش في هذه المدينة الاستثنائية، يعصرها من دون هوادة ولا يريد أن يتركها.

نعم، ما زال بعض شباب البصرة يمارسون تظاهراتهم السلمية، لكن يبدو أن الخدمات التي ينادون بتحسينها قد شهدت تراجعا ملحوظا نكاية بهم ربما، إلى الحد الذي أعلنت فيه دائرة الرقابة الصحية أن التلوث الكيميائي لماء الإسالة في البصرة بلغ 100 بالمئة، كما وصل التلوث الجرثومي إلى 50 بالمئة، في الوقت الذي يعترف فيه موظف كبير بأن بعض مياه الشرب يتم نقلها بحوضيات المياه الثقيلة!

هذا هو الموقف العام لما تعانيه المدينة من سوء الخدمات، التي أسفرت عن استقبال المستشفيات أعدادا كبيرة من المواطنين المصابين بسبب تلوث المياه. وبدلا من التعامل مع الفشل والفساد الإداري الذي ما زال ينخر في جسد المدينة، يذهب مسؤول مصاب بمتلازمة المؤامرة لملاحقة الأدلة التي تثبت أن التظاهرات تدار بالخفاء ومن بعد (بوساطة ريموت كونترول عابر للقارات)، من خلال صفحات التواصل الاجتماعية التي يوجهها أعداء يسكنون في الجنوب الفرنسي.

لم يذكر المصدر غير الموثوق، تفاصيل محددة عن الشخص الضليع بالمؤامرة أو السبب الحقيقي الذي يجعله يترك الاستمتاع بطبيعة الجنوب الفرنسي الخلابة، وصباحاتها المغمسة بأنواع الجبنة الفاخرة والخبز الذي يشبه رائحة الأرض بعد المطر، ليشغل نفسه بتحريض مواطنين مغمورين في آخر العالم تنتفض قلوبهم من أجل حقوق بسيطة تكفلها لهم الطبيعة، يصرخون فتستقبل صرخاتهم جدران العالم الصمّاء.

كما أني لا أعرف السرّ وراء اختيار المسؤول العراقي للجنوب الفرنسي بالتحديد. هل هو ذكريات رائقة تركتها رحلة أخيرة قضاها في هذه الربوع؛ في شواطئ ومتنزهات مارسيليا مثلا، أو متاحف وقصور مونبلييه التاريخية؟ من يدري، ربما كان عليه أن يزيح عن كاهله ثقل مسؤولياته الجسام بسبب خدماته الجليلة لمواطنيه أبناء المدينة العراقية، أو التخلص من إرهاق العمل واستنشاق بعض الهواء الصحي غير الملوث بمخلفات النفط والحروب، ثم الاستمتاع بمياه فرنسية نقية غير مجرثمة ولا تحتوي على مواد كيميائية مبالغ فيها!

شارل ديغول؛ إحدى أبرز الشخصيات في التاريخ الفرنسي الحديث، والأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة كما كان يلقبه الفرنسيون، عبّر في إحدى المرات عن حيرته وقلّة حيلته بسبب أعباء إدارة البلاد وعظم المسؤولية التاريخية والأخلاقية، التي يحملها على كاهله كل من هم على شاكلته؛ الذين وضعهم القدر مصادفة في طريق تقرير مصائر شعوب بأكملها، فقال متذمرا “كيف يمكنك أن تحكم بلدا فيه 246 نوعا من الجبنة؟”.

أغلب الظن أن ديغول كان متيما بالجبنة كأي مواطن فرنسي تقليدي، وكان يعرف أن شعبا ذواقا مثل شعبه يستطيع أن يميز بين نكهات مختلفة لأكثر من 200 نوع من الجبنة، هو بالتأكيد شعب صعب المراس، مزاجي ومتطلب إلى حد بعيد. لهذا أدرك بأن مهمته في إدارة مصالح البلد لم تكن نزهة.

بالتأكيد، إدارة البلدان ليست نزهة أو استراحة قصيرة بين شوطي لعبة. إنها مسؤولية تاريخية وأخلاقية، قلق، خوف، وضمير مستيقظ على الدوام. أما كلمة ضمير؛ فمعلّمة بخط أحمر قاني وكل من يفكر في القفز على حدودها أو تجاوزها، سيجد نفسه في أتون الجحيم.