سمير اليوسفي يكتب:
خوابير المفوضية المسمومة !!
قرأتُ مئات المنشورات في مختلف منصات التواصل الاجتماعي لسياسيين وحقوقيين وإعلاميين تُحلل وتُفنّد تقرير (المفوضية السامية لحقوق الإنسان UNHCHR) حول اليمن.
التقرير الذي تلقته وزارة "حقوق الإنسان" في حكومة الشرعية كآخر من يعلم أنجزه في "ستة أشهُر" فريق من "ثلاثة خُبراء" هم التونسي (كمال جندوبي) رئيساً، وعضوية البريطاني (تشارلز غاراواي) والاسترالية (ميليسا بارك)، بتكليف من المُفَوض السامي السابق بعد طلب مجلس حقوق الإنسان في 4 ديسمبر من العام الماضي.
رصدوا فيه عينات مُنتقاة من انتهاكات حقوق الإنسان من (1 سبتمبر 2014) حتى نهاية يونيو المُنصرم.. ولم يوضحوا سبب اختيارهم هذا التاريخ كبداية للتوثيق، وهل له علاقة بدخول (الحوثيين) إلى صنعاء بعد 20 يوماً منه، أم بِتَسَلُم الأمير الأردني (زيد بن رعد الحسين) مهام عمله مفوضاً سامياً لحقوق الإنسان في نفس اليوم والشهر قبل أربع سنوات، وانتهت ولايته مع بداية هذا الشهر بتسليمها لـ ميشيل باشيليت، وهي سجينة رأي سابقة وطبيبة أطفال حاصلة على شهادة عسكرية ورئيسة دولة "تشيلي" لدورتين حتى نهاية مارس الماضي.
وكان الأمير زيد، وهو من أحفاد الشريف حسين، قد صرّح قبل أشهر أنّه لم يسعَ لتجديد ولايته لأن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن لم تعد تدعمه كما في السابق بسبب تصريحاته حول اليمن وسوريا.
هناك من احتفى بالتقرير وناقشه على طريقة الباحثين والقانونيين، واعتبره ناقوساً مُحذراً لكافة الأطراف بضرورة الانصياع للسلام ولسان حاله "انتهى الدرس ياغبي".. كما في مسرحية الفنان (محمد صبحي) بينهم وزيرة حقوق سابقة، ابنتها عضوة بتحالف لمُراقبة انتهاكات حقوق الإنسان وعملت في مُنظمات تابعة للأمم المُتحدة!!
الخُبراء الثلاثة الذين طالب التحالف بعدم التجديد لهم، زاروا ثلاث مُدن تحت سُلطة الحوثيين هي: صنعاء وصعدة والحُديدة، ووصفوها بسلطة (الأمر الوقع) لأنّها بحسب قولهم "تسيطر أيضا على مُحافظات أخرى يعيش فيها مُعظم السكان، وتمارس فيها وظيفة مشابهة لوظيفة الحكومة، وبهذا تكون مسؤولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان".
في المُقابل، زاروا مدينة واحدة فقط هي عدن تابعة لـ(الحكومة) بحسب التصنيف الذي اعتمدوه.. مع أنّ معظم أعضاء هذه الحكومة في الخارج، مثلهم مثل الخبراء "يأكلون بملاعق من ذهب".
ويُشير توصيف سلطة (الأمر الواقع) إلى طرفٍ غير مُعترف به يستمد سلطته من الغلبة والسيطرة.. والخطورة في أنّه يمكن أن يُصبح شرعياً مع استمراره بالقيام بمهام الدولة، وانخراطه بسلاسة في جولات الحوار، لاسيما أنّ السلطة الموصوفة بالحكومة تعيش خارج اليمن وركنت في حماية شرعيتها على فصائل متنازعة وميليشيات متصارعة كما في مدينة تعز... ولم تبلغ سيطرتها بعد مستوى سُلطة الأمر الواقع في المُحافظات التي تبسط نفوذها عليها!!
والنتيجة التي يريد التقرير الوصول إليها -بغض النظر عن مصداقيتها- هي وجود سُلطة أمر واقع في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون.. وعدم وجود سُلطة للشرعية في المناطق التي يُفترض أنّها تحت إدارة دولة هادي.
يؤكد هذا أنّ الخبراء وصفوا عبدالملك الحوثي بقائد الثورة (!!!)، ولم يتبق غير أن يرفعوا شعار (الموت).. ويهتفوا بالصرخة ويحملوا البنادق للقتال مع الحوثيين!!
أي ثورة، يا خ..راء؟؟
وهل المفوضية التي انتدبتكم (سامية) كما تزعم ومعنية بحقوق الإنسان، وتعمل مع الأمم المتحدة، أم هي سامة تابعة للسيد ومفوضة من داعميه في الخارج؟!
هل أنتم خُبراء فعلاً في حقوق الإنسان أم (خوابير) مُختارين بعناية لتثبيت دولة الكهنوت في اليمن.
وطالما أنَّ ما قامت به جماعة (اللعن) صار ثورة.. فلماذا رفضتها الأمم المتحدة.. وأصدرت قرارات تُدينها، وتدعو لمحاربتها...؟!
ميليشيا الحوثي هي سبب رئيس في الصراع القائم في اليمن، وبالتالي الوصف الملائم لقائدها ينبغي أن يكون دقيقاً على شاكلة (قائد جماعة الحوثيين) أمّا وصفه بقائد الثورة فيوحي بأنّ الحوثي قد استتب له الأمر ودانت له اليمن !!
أبرز ما في تقرير (جندوبي) تهديده برفع أسماء من طرفي الصراع بشكل سري لـ"المُفوض السامي للأمم المتحدة"، يعتقد هو وزميلاه أنّهم مُتهمون بارتكاب "جرائم حرب" تشمل قصف وقنص مدنيين أبرياء في أماكن غير عسكرية وتجنيد أطفال وتعذيبا وانتهاكا داخل سجون غير قانونية وإغلاق مطار صنعاء ونقل البنك مع عدم صرف الرواتب، مع التخفيف قليلاً على الطرف الحوثي في بعض صفحات التقرير الـ45 ورفعه إلى مستوى التحالف في صفحات أخرى!! ومن الواضح أنّ التهديد يهدف لتقديم رسالة للطرفين للتسريع في المفاوضات.
والمنطق يقول بأنّ الحوثي قتل الدولة بكلها وانتهك الدستور وقضى على الجمهورية وفرض-بالقسر والإكراه- على مُحافظات كاملة ترديد هُتافات وصرخات مجنونة.. الأكيد أنّها تخدم إيران وتضر باليمن.
وليس بعد قتاله لليمنيين بغرض تحويلهم إلى أتباع يقبلون رُكب من يروّجون بأنّهم (سادة) من جريمة تستحق الذكر.
وبرّر الخبراء لجوءهم لرصد وتدقيق عينة زعموا أنَّها مُنتقاة بعناية بـ"عدم توّفر الأمن في بعض مُدن ومناطق طالها الانتهاك وصعُبَ عليهم الوصول إليها"، وهذا تدليس وافتراء؛ لأنّ كُل المناطق التي تحدّث الاعلام عن إصابة مدنيين فيها ليست مُغلقة ولا عسكرية، وإلاّ كيف سيتواجد فيها مدنيون وستحدُث فيها انتهاكات لأبرياء إذا لم تكن في الأساس شبه آمنة!!
ولو قالوا إنّهم يخشون على حياة الذين استعانوا بهم في التنقُل أو التوثيق بسبب تَحيزهم لطرف ضد آخر، لكانوا أكثر موضوعية، أمّا مثل هذا القول فيضعهم تحت دائرة الشك والاستفهام؛ لأنّهم خبراء في رصد الانتهاكات، وتقتضي مُهمتهم التي قبلوا العمل فيها؛ ويستلمون عليها مُقابلاً يكفي لإطعام قرية يمنية لعدة أشهر: التعامل مع الأخطار والمشاق، وهي في اليمن؛ لم تصل بعد للمرحلة الحرجة والخطرة، بدلالة تنقل مئات اليمنيين، من صنعاء إلى عدن؛ عبر الضالع أو تعز. أو إلى المُكلا مروراً بمأرب والجوف، وفيهم رجال أعمال ووزراء سابقون.
ينفي هذا الزعم أيضاً: حرص أطراف النزاع على إظهار الحفاوة بمبعوثي الأمم المُتحدة -أو أي أجنبي- لحين خروجهم بانطباع جيد عنهم أو بسلام على الأقل كما فعلوا مع الصحفية (صفاء الأحمد) المُرسلة من قناة الـ(bbc) البريطانية أثناء تجوالها في صنعاء وعمران وصعدة وعدن ولحج وتعز مع أنّها تتنقل مع مصور وسائق وليس برفقتها عساكر وحُراس أمن، وأخرجت زياراتها في أفلام وثائقية انتقدت الجانبين.
ومن العجائب والطرائف أيضاً ما كتبه الخبراء المُترفون نقلاً عن أعوانهم المُدللين بشأن "مواجهتهم قيوداً أمنية ولووووووجستية، وإدارية هامة" منعتهم من زيارة المُحافظات المتضررة وخصوصاً تعز.
(تقولوا "لييييش" كلهم ينفروا من تعز ويكرهونها؟ وهل السبب "لوجستية" اللي ذكرها الخبراء؟)، مع أنّ جهات إنسانية أخرى تابعة للأمم المُتحدة تزور (تعز المتعوسة بتفرق أبنائها) ولم تذكر "لوجستية" ولا أمنية.
بل إنّ هذه الجهات كانت تهرول من زقاق إلى زقاق عندما كانت قطر ضمن دول التحالف بحماية الجماعات المسلحة وقيادات الأحزاب وأنصار الشرعية وحتى أنصار الشريعة كما حصل في يوليو 2017 أثناء زيارة وفد الصليب الأحمر الدولي لـ تعز وكان يقود رئيس البعثة شخص زعم قبلها أنّه أمير "داعش" وخلفه ممثل الحكومة وقيادات الأحزاب.. وأمامه عدسة قناة (الجزيرة) التي بثّت الخبر تأكيداً منها على توفر الأمن!! لكنها تذكرت مؤخراً وجود إرهاب داخل تعز، وقد تكون مُحقة، لكنني أتحدث عن الانتقائية الملعونة.
ذُكرت تعز في التقرير أكثر من مرة باعتبارها محافظة مشكوكا في قاتلها، وما يحصل فيها عدا قصف الطيران للمدنيين -حسب التقرير- لا يرقى لجرائم الحرب ولا الانتهاكات الإنسانية... وكأنّ حصار الحوثيين لأبنائها منذ أربع سنوات هو بغرض تجميعهم في مكان واحد لتسليمهم المساعدات والمُرتبات!!
ومن التأويلات الطريفة على شاكلة (ضربني بـ"وجهه" على يدي)!! قول التقرير إنّ الحوثي ملتزم بأمكنة مُحددة وواضحة في تعز يضرب منها بالمدفعية والكاتيوشا والهاون ولَم يبارحها من بداية الحرب.. عكس الطرف الآخر الذي يتقفز من حوض الأشراف إلى شارع جمال وبقية أحباء تعز بآلياته ومعداته ويتسبب في إلحاق الأذى بالأبرياء .
ناقص يقولوا في تقريرهم أنّ الحوثيين ملتزمون بأماكن الضرب التي حددتها لهم المفوضية السامية!!
كما التمس الخبراء في تقريرهم العذر للطرف الحوثي رغم تشكيكه في ذمتهم عند رفضه السماح لهم بزيارة سجون الأمن القومي والسياسي لأنّه -بحسب التقرير- طلب منهم التزاماً خطياً بضمان عدم ضربها من التحالف..
وكان من المفترض أن يشير التقرير إلى أنّ هذه السجون غير معروفة لأحد وفيها انتهاكات... إلاّ إذا كان الخبراء مقتنعين أنّها سجون متحركة لا تقر في مكانها مثلها مثل مقاومة حوض الأشراف وشارع جمال في تعز!! لأنّهم لم يقولوا أنّها (سرية) مثل التي أشاروا لوجودها في عدن في سياق الحملة على السعودية والإمارات!
ذكروا أنّ العينات التي اختاروها هي أبرز وأهم الانتهاكات التي توثّقوا من صحتها من المعنيين بها وتيقنوا من بياناتها بتوفر أسباب "وجيهة للتصديق" !!
وهذا كلام سطحي مليء بالغبار وتُعوزه الدقة والمنهجية، لأنّ الأسباب الوجيهة كانت ستُقبل لو فحص الخبراء كل حالات الانتهاك التي وثقتها وسائل اعلام الطرفين على الأقل. والعينة المُنتقاة حتى لو كانت مُشتهرة ومعروفة فتُنافي ماصار مُتبعاً في البحوث والاستبيانات العلمية.. وطريقتهم لم تَعُد تُقبل حتى في أبحاث طُلاب المدارس الإعدادية ناهيك عن تقرير يُفترض أنّ مُعدّيه خُبراء يتبعون الجهة الأممية الأولى المعنية بحقوق الانسان.
وفِي حال اعتماد العينة كان ينبغي الكشف عن معاييرها، وكشف أسماء الجهات والشخصيات التي استعان بها الخُبراء من قبيل الشفافية وللتوثُق من توجهاتهم والحيلولة دون وقوعهم فرائس للتعصب والهوا.
أمّا التكتم فيوحي بالريبة ويُقلل من جُهدهم وقيمة ما استندوا إليه كما في هذا التقرير.. لأنّهم حقوقيون عاملون في مُنظمات إنسانية لا مُخبرين في جهات استخباراتية.
قال التقرير إنّ "اليمن ليس طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.. والحال نفسه دول أخرى مشاركة في النزاع"، وهذا ذكرني بتراجع البرلمان اليمني في 2010 عن موافقته على انضمام اليمن للاتفاقية، واستماتة منظمات حقوق الانسان اليمنية لاقرارها مع إتهامهم (المؤتمر الحاكم) الذي رفضها بالخوف على رئيسه آنذاك من المحاكمة بسبب ما زعموه عن جرائمه ضد الحوثيين في صعدة وهو كان يدافع عن النظام الجمهوري الذي يتاجر بعضهم بالبكاء عليه الْيَوْمَ !!!
وحينها اتفقت حقوقيتان (كبيرتان) مع حقوقي منافس على أنّ محكمة الجنايات أنشئت لتسهيل الإجراءات فقط، وبالامكان في حال عدم انضمام الدولة المُتهمة بجرائم الحرب مُحاكمتها استناداً للقانون الدولي العُرفي؛ لأنّ نظام (روما) الأساسي هو مُحاكاة له. والعجيب الغريب أنّ هذا بالضبط ما نص عليه مُفتتح التقرير، ولولا علمي بأنّ الحقوقيين المذكورين عملوا بمقولة المطرب التونسي (بوشناق) وأخذوا المناصب والمكاسب تاركين اليمن للحوثيين يفترسون فيها الغلابى لقلت أنَّهم تشاركوا أيضاً في كتابته.
والحق أنّ معظم حقوقيي اليمن على كثرتهم لم نعد نسمع لهم ركزا منذ بداية سبتمبر 2014 وكأنّ مهمتهم انتهت بمشاركتهم في كسر (حقو) اليمن.. أو أنّهم يظنون أنّ انتهاكات حقوق الآنسان لم يعد لها وجود..
وصَف بيان دول التحالف ما جاء في التقرير بـ"ادعاءات ومزاعم ومغالطات" كما كذّب ماقيل عن تجاهلها لأسئلة الخُبراء ورسائلهم بتذكيرهم بعقد المعنيين اجتماعين معهم خلال زيارتين لهم للرياض، وتسهيل مُهمتهم داخل اليمن، وقال البيان أنّهم دعموا منظمات الأمم المتحدة العاملة في اليمن بمبلغ مليار ومئة وثمانين مليون دولار، رداً على اتهام التقرير لهم بعرقلة وصول المساعدات الانسانية.
ولم يقل البيان أنّ نصف هذا المبلغ يذهب للجان الأمم المتحدة.. ونصف المُتبقي لمشرفي الحوثيين المسيطرين على ميناء الحديدة المكلفين بنهب هذه المساعدات.
وغرَّد السفير السعودي لدى اليمن مُشككاً في حيادية الخبراء لأنّهم استخدموا كلمة (عدوان) في توصيف حملة التحالف في الحديدة، واتفق معه سفير اليمن في لندن، لكنَّ ناشطاً يمنياً في اسطنبول عنده -علم من قطر- سارع للرد عليهما بأنّ النص الانجليزي للتقرير استخدم كلمة "offensive" في مسألة الحديدة وتعني هجومي، والترجمة العربية غير الرسمية استخدمت كلمة عدوان "aggression"، وحرص على تكرار رأي الوزيرة السابقة لحقوق الإنسان بضرورة قراءة التقرير بدون أحكام مسبقة، وتوخي الموضوعية.
أمّا الحوثيون فلم يحتاجوا للتعليق على التقرير رسمياً، بعد أن تكفلت منظمات وجهات (...) بالدفاع عنهم، وإن كان ناشطوهم تلقوه بقبول حسن مع إظهار التشفي بخصومهم.
التقرير الحقيقي سيكون عندما تتحرر بقية مناطق اليمن من سلطة الحوثيين.. هذا ما يفهمه اليمنيون... ولا شأن لهم بتقارير اللجان المخملية، وخبابير الخبراء الخوابير.