ماجد السامرائي يكتب:
حاكم العراق.. الاعتدال السياسي لا يكفي
ليس مقصودا من هذه المقالة إجراء مقارنة أو تشبيه بين شخصيتي حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي، فكلاهما ينهل من منبع واحد هو الإسلام السياسي الشيعي، رغم أن الأول انتظم في حزب والثاني تعاطى مع الفكر السياسي بعقلية منفتحة وروحية التجديد مقتنعاً بالأيديولوجيا الإسلامية الشيعية كمسار سياسي له بعد هجره للتيارين القومي واليساري في أحلك ظرف عراقي هو بدايات الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) فاختار الصلة والعلاقة بزعيم شيعي فقيه له ولعائلته تاريخ مهم في السياسة العراقية هو محمد باقر الحكيم.
العبادي وعبدالمهدي وجدا في الاعتدال ميدانا لنشاطاتهما داخل العملية السياسية بعد عام 2003، رغم ما سادها من سياسات متطرفة حكمت ظلما على أبناء إحدى الطائفتين الرئيسيتين بالإرهاب أو مقاومة السلطة الجديدة حتى حين كان العراق محكوماً بالاحتلال الأميركي بين 2003 و2011.
صفة الاستقلالية الحزبية قد تعطي لعبدالمهدي علامة قوة رغم أن هناك من يعتقد أن هذا التطور المرتبط بالشخصية السياسية لرئيس الوزراء الجديد لا يشكل تغييراً في مسار النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والاستسلام لامبراطورية الفساد، وأن الإصلاح الشامل سيبقى حلما يراود الوطنيين في هذا البلد رغم الإعلانات المكثفة من رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
ولكن هناك من يعتقد أن ما حصل يوم الثالث من أكتوبر الماضي في بغداد هو انتقالة ذات أهمية لمن يرون أن التغيير لن يحصل عبر الانقلاب العسكري أو بالتخلي عن الشرعية الديمقراطية التي أصبح عمرها 15 عاما، إلى الشرعية الثورية التي أصبحت جزءاً من الماضي لا في العراق فحسب وإنما في منطقة الشرق الأوسط، رغم بقائها في طهران تحت راية ولي الفقيه الشيعي.
الجهود السياسية المطلوبة في العراق تتطلب تكسير قواعد المحاصصة الطائفية التي جلبت كل الخراب في العراق، وإزاحة هيمنة الحكم الإسلامي التابع لخارج الحدود ومحاولة العمل من باب العقلانية والوسطية على البناء والإصلاح وإعلان المعركة ضد الفساد لأن ذلك هو المدخل الحقيقي لتخليص البلد من أهم مخاطر التخلف وغياب الحقوق.
يشترك العبادي وعبدالمهدي في العقلانية من داخل الإسلام السياسي لكن هذه العقلانية سيف ذو حدين حيث يمكن توظيفها لصالح التشدد الطائفي أو التطور الإصلاحي.
أنتج نمط الحكم العراقي لما بعد 2003 زعامات سياسية من داخل الإسلام السياسي ذات تطلعات منفتحة، لكنها غير قادرة على الخروج من الإطارات الكبرى لإدارة ذلك النمط الديني في الحكم وما أنتجه من تخندقات طائفية وإشاعة الكراهية بين أبناء المجتمع، إلى درجة توظيف أدوات الدولة العسكرية والأمنية لتحقيق تلك الأهداف. يمكن للمسؤول الأول في الدولة أن يعلن عن توجهاته في ميادين محاربة الفساد والإصلاحات، لكنه لن يتمكن من المساس بالهيمنة الكبرى للأحزاب الإسلامية على أمور البلاد.
خط العقلانية السياسية داخل الإسلام السياسي الشيعي والسني هو محاولة لتهدئة المخاوف من انهيارات أكثر مأساوية في العراق.
هناك جيل من القادة داخل حزب الدعوة وخارجه تنبهوا إلى ما صنعته الحزبية الضيقة والتخندق الطائفي من تداعيات أضرت بمكانة حزبهم ووضعته على الرف، ومن هؤلاء حيدر العبادي، لكنه في فترة حكمه لم يتمكن من تخطي أحكام قيادات الإسلام السياسي في اختيار كابينة حكومية مستقلة تسترشد ببرنامج حكومي إصلاحي، وحاول إقناع حزبه بأن العراق اليوم لا يمكن أن يُحكم بالفردية الحزبية والأيديولوجيا الدينية، والعراقيون لم يعد بوسعهم تقبل هذا النمط من الحكم بعد فترات عصيبة من تراكم الحروب والعقوبات الأميركية والدولية، وأصبح على من يتصدر السلطة أن يقدم نموذجا للعدالة والمساواة وسيادة القانون وإعادة الحقوق الإنسانية المهدورة للمواطنين، ومنع سيادة الميليشيات المسلحة في الشوارع وسيطرة الأحزاب على دواوين الحكومة، والابتعاد عن سياسات المحاور والولاء لإيران بالمزيد من الاستقلالية، والدخول في تطبيقات منهج وسطي يجمع الناس ولا يفرقهم.
ظل العبادي وحده في مواجهة هذا الأخطبوط الذي اسمه الأحزاب الشيعية ولم يتمكن من مقاومتها، والعقدة الأكبر عنده كانت عدم قدرته على نزع عباءة حزب الدعوة رغم علمه بفشل هذا الحزب وسط الجمهور الشيعي، ولو فعل ذلك لكان مثلما هو اليوم عادل عبدالمهدي مؤمناً بأيديولوجيا الإسلام السياسي ولديه مشروع معتدل ومستقل في الحكم. لم ينجح العبادي لأنه كان مهادنا وراضيا بفشل حزبه، ونجح في معركة داعش الحربية لأنه كان هناك إجماع عام عليها من جميع الأحزاب والكتل السياسية العراقية مسنودا من مرجعية النجف الشيعية.
ورغم فشل العبادي في الانتقال بالبلد من عهد المحاصصة الطائفية إلى عهد الحكم المدني، استطاع وضع السلطة في العراق أمام عتبات هذا التحول الشاق، ليكون استلام عبدالمهدي للسلطة بمثابة تكريس لقواعد جديدة في المرحلة الانتقالية من أدلجة الإسلام السياسي المتشدد، إلى الإطار الوطني الذي لا يغيب عنه الإسلام السياسي لكنه موجود داخله مقصوص الجناحين.
عادل عبدالمهدي أحد زعماء الإسلام السياسي الشيعي رغم خروجه التنظيمي من المجلس الإسلامي الأعلى، لكنه يعكس استجابة فكرية وسياسية للمرحلة العراقية الجديدة، والامتحان الحقيقي أمامه ليس الشعارات الوسطية العامة رغم أهميتها لجمهور عراقي محبط ومثقل ومتألم من شعارات “حرب جيش الحسين مقابل جيش يزيد” ومن الكلام الكثير حول الإصلاح.
تحاول الأحزاب تطويق عبدالمهدي بقيود سياسية ودستورية توحي بضرورة التزامه بتنفيذ رغباتها وخياراتها في الوزارات، فمن وجهة نظر تلك الأحزاب أنها “اختارته هذه المرة بالتوافق داخل البيت الشيعي كمرشح تسوية عبر الكتلتين الكبيرتين، ولما كان حكم العراق برلمانياً، فلا بد لرئيس الوزراء أن يخضع لإرادة الأحزاب الكبيرة داخل البرلمان”، مع أن إحدى الكتلتين الكبيرتين، كتلة سائرون، قد أعلن زعيمها مقتدى الصدر أنه لن يشارك في الحكومة ويتنازل عن ثماني وزارات فيها، وهي خطوة رمزية محرجة للأحزاب الأخرى المتطلعة إلى السلطة الجديدة، وتعتقد أن سياسة عبدالمهدي المعتدلة تستطيع أن تشكل إحدى الدعامات الرئيسية لحمايتها من غضب الجمهور العراقي المتصاعد من البصرة إلى الموصل، وقد يكون من بين ما يجري التفاهم حوله بين قادة تلك الأحزاب وعادل عبدالمهدي أن يتم إطلاق يديه في الحكومة ببعض الوزارات، لقاء تجاوز احتمالات وضع بعض قادتها تحت المسؤولية القانونية والاعتبارية أمام الشعب في حوادث كبيرة حصلت في العراق وإغلاق الملفات المجمدة بشكل نهائي أو تحييد شخصيات مهمة عن التحقيق معها، بما فيها ملف سقوط الموصل، ومجزرة سبايكر وملف الفساد في صفقات الأسلحة والأموال المهربة.
هل سيتمكن عبدالمهدي من تحويل نظريته السياسية المعتدلة إلى بداية شجاعة يقدر من خلالها على اختيار فريقه الوزاري من خارج الأحزاب مستنداً في ذلك إلى مبادرة مقتدى الصدر وإلى مرجعيته الشيعية التي طالبت بأن يكون المسؤول الحكومي مستقلا؟
شعارات الاعتدال السياسي لرئيس الوزراء الجديد مهمة لكنها ليست دواء للأزمات الكبرى التي يعيشها البلد، وهو قادر على مصارحة قادة الأحزاب بأن واقع مسيرتهم السابقة هو الفشل وأنهم انتدبوا الأميين والفاسدين والسراق إلى مرافق الوزارات باسم المحاصصة، وعليهم إعطاؤه الفرصة لخدمة الشعب وليس الأحزاب وهنا تكمن مقدرته وقوته في أنه مستقل. وهذا لا يعني إقصاءه لجميع منتسبي الأحزاب الشيعية عن طاقم الحكومة، بل أن تتوقف الهيمنة الطائفية الحزبية لصالح كفاءات المجتمع العراقي التي غيبت لخمسة عشر عاما. هناك شكوك في قدرته على تحقيق ذلك لأن منهج تلك الأحزاب وسياساتها ومعاركها وخصوماتها تهدف فقط إلى الاستحواذ على السلطة وليس التفرج عليها ومباركتها.