محمد أبوالفضل يكتب:
قميص غزة الذي تباكت عليه قطر
الدموع التي ذرفتها قطر على صراعات المنطقة خلال السنوات الماضية كثيرة، استخدمت فيها أداتها الإعلامية المعروفة بقناة الجزيرة، بصورة اختلط فيها الحابل بالنابل وتداخلت فيها الحسابات السياسية مع المهنية، لم تتوقف برهة عند المسؤولية التي تتحملها الدوحة في زيادة حدة التوترات والتحريض عليها وتغذيتها معنويا وماديا.
وسط الدموع التي انهمرت بكثافة من عيون بعض مذيعيها بشأن حصار غزة منذ حوالي عشر سنوات، لم تدرك أنه سيأتي اليوم الذي تتكشف فيه الألاعيب التي نسجتها وحمّلت مصر وحدها حصار القطاع، ومنع وصول المساعدات عن سكانه، دون ذكر لدور مباشر قامت به إسرائيل وتتحمل مسؤوليته بمفردها.
القصة أن الدوحة نشطت خلال الأيام الماضية لتقديم كميات من الوقود بغرض إنارة غزة بالكهرباء، وأبدت تعاونا لافتا مع الأمم المتحدة وإسرائيل لتقديم المساعدات وتخفيف حدة الحصار والمعاناة عن المواطنين، والأهم محاولة تقوية شوكة حماس لمواجهة العقوبات التي شرعت السلطة الفلسطينية في فرضها على القطاع.
جميع أنواع المساعدات التي قدمت، علانية أو في الخفاء، مرت عبر قنوات إسرائيلية وتمت بالتنسيق مع المسؤولين في تل أبيب، ودخلت عن طريق المعابر المتعددة التي تتحكم فيها قوات الاحتلال مع غزة، ما يعني أن الجهة التي تفرض الحصار الحقيقي هي إسرائيل.
نعم هناك خلافات بين الدوحة والقاهرة تحول دون دخول بعض المساعدات عن طريق معبر رفح المخصص أصلا لعبور الأفراد وليس الحافلات، مع ذلك تباكت عليه قطر، واتهمت مصر بتعمد إغلاقه وتجويع أهالي غزة، دون إشارة إلى الهدف من ذلك وهو ضبط عملية المرور، وضرورة وجود شرطة تابعة للسلطة الفلسطينية، والحاجة للدفاع عن الأمن القومي، ومنع دخول عناصر متشددة باندساسها وسط المواطنين البسطاء.
المبادرة التي اتخذتها القاهرة منذ عامين لهدم الأنفاق الواصلة بين رفح المصرية ونظيرتها الفلسطينية، ومنع تسريب الإرهابيين لسيناء والأسلحة لهم، لم تتوقف قطر عند معانيها الإيجابية وحصرتها في إطار الادّعاء بتشريد مواطني رفح في شمال سيناء، وتغافلت أن مصر غضت الطرف عن الأنفاق عندما كانت أداة لإدخال المساعدات لمواطني غزة وليس لتهريب المجرمين إلى سيناء.
من حيث لا تدري قدمت قطر هدية ممهورة بخط يد المسؤولين فيها، وبدأت تخوض معركة سياسية بذريعة إنقاذ غزة، وكأن حصارها الممتد لسنوات ظهر الأسابيع الماضية فقط، ألم تكن تعلم أنه مستمر منذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007؟ وأن معركتها المفتعلة لإعادة البناء فشلت لأن إسرائيل لم تكن راضية عنها؟
التحركات التي تقوم بها حاليا ركزت على التعامل مع إسرائيل والتنسيق مع الأمم المتحدة، أملا في البحث عن دور يتجاوز دخول المساعدات، ويصل إلى حد تغيير جدول الأعمال الذي توافقت عليه القاهرة مع فتح وغالبية الحركات الفلسطينية، وتحاول الدوحة منح التهدئة مع إسرائيل أولوية قبل المصالحة، وهو ما تسعى إليه حماس.
عندما وجدت إسرائيل أن الهدوء النسبي مع غزة جرى خرقه، أعلنت من جانبها، السبت، وقف المساعدات القطرية لغزة، واستمرار الحصار المفروض على القطاع من دون أن تتحدث الدوحة بشيء عن هذه الخطوة، أو تبدي امتعاضا سياسيا من الإجراء المفاجئ، بل تقبلته وامتثلت له ولم تحمّل إسرائيل مسؤولية الحصار.
على العكس، استنفرت وسائل الإعلام التابعة لها، واستأنفت عملية التشويش على مصر، وتجاهلت ما قامت به إسرائيل، وتحدثت عن عملية فتح وغلق معبر رفح لمدد قصيرة، ما يشي بالعودة إلى السيمفونية السابقة.
من تابعوا الحملة التي شنتها الجزيرة على الحكومة المصرية عقب حرب إسرائيل على غزة، نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، تولّد لديهم يقين آنذاك أن القاهرة “أجرمت” في حق أهالي غزة، عندما أغلقت معبر رفح لمنع دخول الآلاف من البشر، بينهم مئات من المتطرفين الذين يمثلون تهديدا للأمن القومي، وهو ما ثبتت صحته بتمركز إرهابيين في سيناء.
وقتها ابتعدت قطر عن الحديث باستفاضة عن الأسباب التي أدت إلى غلق معبر رفح، وشحنت الناس بعبارات انفعالية رسخت في وجدانهم معان سلبية تعزز من مسؤولية القاهرة الأخلاقية عن حصار غزة، مقابل نفيها عن إسرائيل.
الآلة القطرية تمكنت من لصق هذه التهمة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك في ذلك الوقت، وعندما سقط ولم ينته الحصار على غزة، تجاهلت الحديث عن عظم المسؤولية الإسرائيلية، وجرى نقل المشاهدين لجدول أعمال آخر، إلى أن تجدد الهجوم بنفس الذرائع مع سقوط حكم الإخوان المسلمين بمصر في 30 يوليو 2013.
اللعبة التي تمارسها قطر تنصب جهودها فقط على تخفيف الحصار عن غزة، دون أن تستغرق في التركيز على الجهة التي أدت تصرفاتها إليه، فقد فرض عليها الواقع تشتيت الانتباه لعدم الصدام بإسرائيل، وتحول الحصار إلى ما يمكن وصفه بـ”قميص عثمان” الذي تتباكى عليه الدوحة حاليا.
التباكي له تفسيرات عدة، فهو يمنحها فرصة للنواح على السكان المظلومين والتأثير على قطاع كبير من المشاهدين، وخلق رأي عام متعاطف مع حماس، الحليف التقليدي للدوحة، وتخفيف الضغوط السياسية على الحركة التي تتمسك بالبقاء في حكم غزة، وتتنصل من كل محاولة تقود إلى تمكين الحكومة الفلسطينية.
تسليط الأضواء على الحصار منح حماس أيضا فرصة للمتاجرة السياسية به، وتبديل وتعديل أولوياتها وفقا لتقديراتها التي تفرضها اللحظة، وقدم لها مبررا جيدا بشأن التمسك بأهمية التوصل لتهدئة مع إسرائيل، والتنصل من الضغوط التي تتعرض لها من جانب السلطة الفلسطينية لجعل المصالحة مقدمة على التهدئة.
الدوحة وجدت في التهدئة، كما الحصار، نافذة للحضور بفاعلية على الساحة الفلسطينية، التي تسعى منذ فترة لتعظيم دورها فيها، ومن خلالها يمكن تهميش دور الوساطة التي تقوم بها مصر وعرقلة التوصل إلى مصالحة وطنية بين القوى الفلسطينية، والتدخل من أجل البحث في قضايا أخرى لها علاقة مباشرة بحماس وإسرائيل، مثل قضية الأسرى.
النتيجة الطبيعية التي تفضي إليها مجمل الممارسات القطرية تتمحور في تعميق الخلاف بين فتح وحماس، ومن ثم ترسيخ الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، ما يؤدي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وتمكين حماس من استمرار قبضتها على غزة.
تحقيق هذا الهدف يجعل للدوحة حليفا مشاغبا على مرمى بصر من مصر، قد يتحول إلى منغص دائم، عندما يتمكن من فك الحصار الذي تفرضه إسرائيل، وعقد صفقات مع جهات دولية لتعمير القطاع، فضلا عن الحصول على مزايا توفر ما تتمناه حماس من حكم ذاتي، وهو الطريق الذي تسير فيه قطر، وتحاول أن تفرضه بسياسة الأمر الواقع.
المشكلة أن الخطوات التي تتبناها قطر تتجاهل في معظمها أن الجهات المناهضة لتصوراتها لديها من الكفاءة ما يمكنها من دحض المحاولات الدؤوبة لفرض خياراتها، والدليل أن ادعاءات تحميل مسؤولية حصار غزة لمصر تسقط الواحدة تلو الأخرى. كما أن غالبية التوجهات التي تبنتها الدوحة لدعم الجماعات الإرهابية والتنظيمات المتطرفة، رُفع عنها الحجاب، وجعلت قطر تدفع ثمنا باهظا لممارساتها.