نهى الصراف تكتب:

لا تكسروا الروتين

أكثر ما كان يوتر أعصابي ويصيبني بالغم في أيام الحرب؛ مشاهدة عظام الروتين التي كانت تتكسر وتتهشم بفعل الأحداث والتغييرات المتسارعة، حين كانت تعترضنا نوبات الهلع التي تمارس طقوسها أشباح مسموعة غير مرئية.

ليس كل روتين مملا كما هو متعارف عليه من زاوية التعميم الضيقة، فالروتين أحيانا يعني حياة مستقرة هادئة منتجة ومنظمة؛ نصحو في الصباح الباكر وفي جفوننا بعض من نعاس وأمل ثم نبدأ بوضع الخطط لنهار طويل خال من المفاجآت والمعرقلات.

في الحرب، تتوارى الطقوس البسيطة عن مشهد الحياة الساكن الذي يتحول إلى بركة وحل هائجة بفعل رمية حجر من طفل مشاكس، فتخرج الأمنيات على شكل حسرات كلما كانت تتناهى إلى سمعنا أصوات القصف ونحن نتخيل طوابير من أشباح تنتظر دورها تلبية لنداء الموت. لم يكن الروتين اليومي متاحا في صباحات الحرب، وبينما كنت أنصت مضطرة لضربات مطارق الخوف في روحي، كنت أتشوق لصباح واحد مغزول من سلام وطمأنينة؛ صباح الذهاب إلى العمل واللهاث خلف المسؤوليات، النميمة مع الصديقات، التسوق، زحام الشوارع، المواصلات، والعودة إلى المنزل، الطبخ، الترتيب، متابعة التلفزيون وفيلم السهرة. في أيام السلم، حتى الاكتئاب الوجودي كانت له نكهته الخاصة.

في محاولاتي للبحث في المصادر عن كلمة روتين والمعاني التي يمكن أن تدور حولها، صادفت عناوين تصب كلها في معنى واحد لا يتغير؛ كيف تغير روتين حياتك؟ أو كيف يكون الروتين اليومي خطوة نحو الاكتئاب، في تأكيد واضح على أن الروتين هو السبب المباشر في بعض الاضطرابات النفسية التي قد تصيب سكان العالم المعاصر، بل إن بعض مصادر التنمية البشرية تؤكد أن كسر حدة الروتين ممكن أن يتم بخطوات وإجراءات بسيطة، وكأن لا شاغل وراء إنسان العصر الرقمي سوى مشكلة التخلص من براثن الروتين، لتعود حياته جميلة كما سيرتها الأولى قبل أن يجثم عليها شبح الروتين!

لطالما أعجبت كثيرا بسيرة الراحل نجيب محفوظ وطقوسه في الكتابة المواظبة وحبه للروتين، خاصة الروتين الحكومي الذي ساعده في تنظيم حياته بين العمل والكتابة.

بعد تقاعده من عمله الحكومي، كان محفوظ يخصص ساعات محددة طوال اليوم للكتابة في نظام صارم لا يحيد عنه؛ نظام في أوقات الطعام والنوم والكتابة والقراءة حتى طريقة ومراحل الكتابة والأدوات التي كان يستخدمها، ولم يستثن من ذلك لحظات التأمل وعدد فناجين القهوة وتوقيتاتها، والأمر ذاته يتعلق بالمقطوعات الموسيقية التي كان يسمعها إضافة إلى أغاني أم كلثوم، ثم ذهابه اليومي إلى المقهى الذي كان يعده معرضا دائما لشخصيات رواياته. كما أن فكرة السفر لم تكن تجد عنده ترحيبا كبيرا، فلم يكن محبا للسفر حتى أنه حدث وأرسل ابنتيه لتسلم جائزة نوبل بالنيابة عنه، بينما ذهب هو للقاء أصدقائه خشية أن يتغير جدوله اليومي المعتاد.

على الرغم من أن السفر يشبع ويسقي شجرة الفضول حتى ترتوي، وعلى الرغم من فوائده السبع التي تتناقلها الأمثال الشعبية فإن للسفر مضاره أيضا؛ فهو عدو الروتين الأول وصاحب حظ كبير من نجح في الاستغناء عنه تماما أو اكتفى بسفرات قصيرة حسبما تقتضيه الضرورات.

بعض الناس، يكرهون السفر بجميع تفاصيله حتى لو كان بغرض الترفيه، لكنهم يذعنون في الغالب لرأي الجماعة وقد لا يجدون مخرجا لذلك، فيضطرون إلى شرخ الروتين ولو قليلا!