ماهر فرغلي يكتب:

رسالة من إخواني مسجون

وصلتني هذه الرسالة من إخواني مسجون، وهأنذا أوفي بوعدي وأنشرها كما هي: (صديقي: التفاصيل كثيرة بين انتمائي للجماعة ثم استقالتي منها، فالمسافة بين الانتماء والانشقاق كانت حوالي أربعة أعوام قبل الثورة، وعامين بعدها، انتهت الأربعة الأولى منها حين ضبطني أحدهم وأنا أسمع أنشودة حماسية بالدف، فأبلغهم أنني أستمع إلى الموسيقى.. وبدأ التحقيق.. ساعتها قلت لهم إنها أنشودة.. لم يقتنعوا، فأنا أستمع إلى الموسيقى وهي حرام حرام لدى هؤلاء المغفلين.. إنهم جهلة.. هل يوجد في الكون أجمل من الموسيقى؟!.. وأي دليل هذا الذي حرمها؟!.. لكن إنسان التنظيم يظل خلوقًا حتى يختلف في أمر ما معك، وحين ييأس من الاتفاق يتحول إلى لا إنسان.. شيطان يدّعي أنه رباني.. أحدهم (ح. ع) قال لي يا فاسق.. كلمة من هنا وكلمة من هناك، دبت الخناقة الكبيرة.. أقسم بالله أنه ترك التنظيم الآن ويبيع أقراص الترامادول المخدرة حتى يكسب.. ساعتها تم استبعادي من كامل مسؤولياتي داخل التنظيم بسببه، بحجة أنني غير مؤهل تكوينيًّا ولا تربويًّا.

حين وصل الإخوان إلى السلطة عدت للجماعة، لكنني كنت قلقًا.. وجدت نفسي أسرح في الكابوس الإخواني الذي أصاب كل المصريين.. شهوة الحكم المسمومة التي جعلت الجماعة الطاعنة في السن تمضي لا تلوي على شيء.. لا يهمهم تلك الأيام العصيبة التي تمر بالمصريين.. لا بنزين.. لا أنابيب للغاز.. لا سلع ضرورية.. حجم الفاتورة التي ندفعها كانت كبيرة وعظيمة.. لكن كان علينا التحمل حتى يأتي يوم السقوط العظيم، وكنت أرى أنه قادم لا محالة.. الموالون للجماعة يقولون إن الدولة العميقة تفشلنا، وأنا والآخرون نعرف أن الجماعة لم تصمد لشهوة الحكم الذى بدا كثمرة لابد من قطافها، دون أن تدرك أنها قد تكون مسمومة لن تسد جوعها أو تروى ظمأها.. كانت أشواق التنظيم العريض الطاعن في السن بانتظار تلك اللحظة، فقرر خطفها دون أن يعدّ إجابات عن أسئلة الدولة، لذا رأيت أنهم سوف يكتوون بنيران الحكم الذي فشلوا أن يسوسوه، وستقتلهم تلك الثمرة المسمومة.. من يجرؤ غيري على قول ذلك، كان لا أحد.. أنا شخصية قلقة بالفعل.. كنت أحبهم لكنني غير مقتنع بهم.. لم تتح لي الفرصة كي تنفجر من داخلي الكتلة الحرجة، حتى مر الوقت وكثرت الضوضاء.. كنت أتأرجح بين طريقين.. بين هؤلاء الإخوان الذين يلبسون كل ما يفعلونه ثياب القداسة، وبين المراجعة الصعبة.. هم تعودوا على الإبداع في وسائل الدعوة والتجنيد لا الأفكار.. دوامة وطاحونة من الجهد.. والنبوءات جاهزة.. وظللت هكذا أرهق دماغي حتى فقدت الحرية، ودخلت السجن مع من دخلوا من الموالين للتنظيم.

في السجن الآن يلفني صمت رهيب.. لا أعرف الأسباب التي جعلتني أفكر في أعضاء الإخوان.. يبدو أنني كنت حتى أيام قليلة لم أتخلص من شوائب هذه الجماعات، لكنني بالفعل أدركت أنهم سقطوا هذه المرة في هوة عميقة.. أنا إنسان تنظيمي قديم، كانت لي خصائصي القريبة من الإخوان، وهي التي جعلتني أشعر أنهم كالجريح الذي ينبغي أن نضمد جراحه ونقيله من عثرته، أو كالسفيه الذي ينبغي أن نحجر عليه ونمنعه من الإضرار بنا.. إنساني التنظيمي أعياني عن التفكير في إغراءات السلطة وإخفاقات ما قبل السقوط.

أؤكد لك يا صديقي الآن أنني أدركت أنهم جميعًا شربوا حبوب «ترامادول».. مخدرون طوال الوقت.. حتى الآن لا يرون كل هؤلاء الناس الذين خرجوا ضدهم؟!.. وأنا أعرف السبب، وهو أنهم منعزلون عن مجتمعهم وليسوا جزءًا منه، وشتان بين من يرى مجتمعه محور اهتمامه، ومن يتمحور حول ذاته.. بين من يسعى لتمكين مجتمعه من وسائل النهضة، ومن جاهد ليتمكن هو من المجتمع ليتحول إلى تابع له.

إنهم يا صاحبي أقوام يفكرون بالمعكوس.. يرفضون حين يوافق الجميع، ويوافقون حين يرفض الجميع.. يتقاعسون عندما يجتهد الناس، ويتأخرون حين يتقدم الآخرون.. ليس لهم في العلم شيء، ومع ذلك تراهم يثرثرون ويتفيهقون ويحللون ويناقشون.. يتكلمون في كل شيء وأي شيء، ولا يتركون وراءهم سوى ضجيج الكلمات.

تكوّم الأفكار في ذهني يجعلني خاملًا.. تكرار ظهورهم في أزمنة حياتي يشبه الرياح التي تسوق غيومًا سوداء فوق رأسي.. تلازم معي هذا البلاء، وكأن الحياة على وشك النفاد.. تشبثت بالهواء وصارعت من أجل قبضة حرية.. أدركت الحقيقة، وانفجر في داخلي البركان.. كان السؤال محتجبًا في أعماقي.. مكبوتًا... مطموسًا... الدنيا الظالمة حولي مستعدة للانقضاض عليّ كلما بحثت عن الأجوبة.. لكن الجواب النهائي كان هو الفرار من هذا الجحيم، والعودة لي وللحياة).