ماهر فرغلي يكتب:

"سلفيو كوستا" أين ذهبوا؟

للوهلة الأولى كانت هناك توليفة ما، بين المعاصرة والأصولية، فيما يسمى "سلفيو كوستا"؛ وهم مجموعة شباب سلفيين رفضوا أن يوصموا بأيّ تعبير سلفي، ثم اضطروا أن يقبلوا بما يقال عنهم بالنهاية، معتبرين أنّ المجتمع يعيش في حالة غرق، وأنّ دورهم هو محاولة إنقاذ الناس من الفصائلية والطبقية والمجموعاتية والجبهوية، وبعد سقوط حكم الإخوان اختفوا وذابوا كأنّهم فكرة كانت وليدة ظرف، وحين انتهى الحدث انتهوا معه بلا رجعة.
من هم "سلفيو كوستا"؟
ظهرت الحركة في نيسان (أبريل) 2011، اعتراضاً على الخلافات التي وقعت بين التيارات الليبرالية والسلفية، حول التعديلات الدستورية، كحالة وسط بين الفريقين، وفي محاولة لإيجاد فرصة للتعايش بينهما، واختاروا اسم المقهى الذي اعتادوا على الجلوس فيه، وهو (كوستا).
في يوم الثلاثاء 23 تموز (يوليو) 2013، قال المؤسس محمد طلبة في حديث صحفي، إنّ "الفكرة كانت وليدة لواقعة تمييز تعرضت لها بصورة شخصية؛ لأنّني من خلال عملي في إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات التي تقع في القرية الذكية كان لدي اجتماع عمل على بعد 30 كيلومتراً، فاتصلت بزميلة لي طلبت منها تغيير مكان اللقاء، ليكون في مقهى ''كوستا''، فردّت باستهجان شديد ''هو أنتم تعرفوا يعني إيه كوستا أصلاً''، ورفضت تغيير مكان اللقاء، وهو ما دفعني إلى تأسيس مجموعة على فيسبوك، وجعلتها هي العضو الوحيد، وبمرور الوقت تطورت الفكرة!".

سلفيو كوستا لا يختلفون كثيراً عن باقي التنظيمات السلفية، لكنّهم يتشاركون في الخطاب والأهداف والقواعد الفكرية

يضيف: "الفكرة جاءتني حينما اكتشفت أنّ التعامل مع التيارات الإسلامية لم يتغير، وأنّ التحفّظ والخوف هو الموجود، فقررنا أن نوفّر نقاط التقاء، وحاولنا الحديث مع رموز التيارات الدينية، فلم نستطع الوصول إليهم، والأمر أيضاً مع الرموز الليبرالية، فقرّرنا أن نتحرك وننطلق كمجموعة "سلفيو كوستا"، وشعارنا: "نمشي في الأسواق، ونأكل الطعام، ونشرب الكابتشينو".
يقول الكاتب، أحمد عبد الحميد، في تحقيق يوم 31 تموز (يوليو) 2011، نشره مركز "التنوع لفضّ النزاعات": إنّ "سلفيي كوستا هم مجموعة من الشباب السلفيين، رسالتهم كانت الاندماج في المجتمع، مع فصائله وطبقاته ومجموعاته وجبهاته، وهم لا يهدفون تكوين حزب أو حركة سياسية، لكنّهم يحاولون البعد عن النزاعات عن طريق التقريب بين مختلف التيارات عن طريق الأنشطة الميدانية والرياضية".
ينقل الصحفي المختص في الإسلام السياسي، أحمد الجدي، عن وليد مصطفى (أحد أعضاء المجموعة)؛ أنّه كان لهم شعار ساخر هو: "سلفيو كوستا مش بتوع انتخابات، سلفيو كوستا بيجمعوا كل الاتجاهات"؛ لذا فهم كمجموعة كانوا لا يشترطون أن يكون الأعضاء في حزب معين، كما أنّهم يرون أنّ الوضع السياسي اليوم الأمور فيه متشابكة، وأنّ اللعبة غير مفهومة وعليه فسوف ينتظرون.
أنشطة للاستقطاب أم للتجميع؟
نزل سلفيو كوستا لميدان التحرير، للمرة الأولى، يو م 27 أيار (مايو)، وهم يحملون لافتة "سلفيو كوستا إحنا دايماً يلي بنحاسب على المشاريب"، في إشارة إلى أنّ السلفيين هم دائماً من يتحمّلون كلفة كافة الأمور الحادثة في البلد في ظلّ عصر مبارك وحتى بعد سقوطه .
ينقل الصحفي المختص في شؤون الإسلام السياسي، أحمد الجدي، عن الدكتور محمد حسين (30 عاماً)، المسؤول الإعلامي وأحد مؤسسي الحركة، في تصريح خاص؛ أنّ مجموعة "سلفيي كوستا" تأسّست في آذار (مارس) عام 2011، من خلال محمد طلبة، وكان عدد المنضمين للحركة 90 شخصاً، كوّنوا ما يشبه النواة، وسرعان ما انضم مئات آخرون، دون إحصاء رسمي؛ نظراً إلى عدم وجود استمارات انضمام لها، لافتاً إلى أنّ الحركة جذبت منذ البداية أسماء بارزة من الوجوه الفاعلة في ثورة 25 يناير، موضحاً أنّ اسم الحركة لا يعني مطلقاً أنّ السلفيين هم المسيطرون داخلها، بل إنّهم نسبة بسيطة بالمقارنة بأصحاب الأفكار الأخرى؛ فهي مثلاً تدعم مشاركة الأقباط في كلّ مناحي الحياة في باعتبارهم شركاء في الوطن، كما أنّهم يسهمون بدور كبير داخل الحركة.
كانت إحدى مبادرات "سلفيو كوستا" لعب كرة القدم مع مجموعة من الأقباط، وادعّت المجموعة أنّه يمكن عن طريق مشاريع مشتركة أن نتجنب الخلافات العقدية والفكرية، وأعلن طلبة أنّ الدين تعايش ورحمة، والبناء مع الآخر يسبقه هدم ما تبنيه الصورة المشوشة والمغلوطة، وتم الاتفاق مع مجموعة مسيحية، ورحّبوا بالأمر، لكن بعد أحداث إمبابة توقف الأمر.
كما قامت المجموعة بأعمال تطوعية، شملت افتتاح فصول تعليمية بمناطق فقيرة وتنظيم قوافل طبية يشارك فيها أطباء من السلفيين والمسيحيين، واستغلوا الثورة في إقامة بعض المشاريع التنموية.
وأسّست المجموعة مجموعة على الفيسبوك، ثم أنتجوا فيلم "أين ودني؟"، وكان أول محاولة للتعريف بأنفسهم في المجتمع، ويطرح الفيلم المشاكل الموجودة بين التيارات؛ حيث يحكي لقاء بين شابين أحدهما سلفي والآخر ليبرالي، ومن خلال بعض النقاشات يتعرض لكافة المخاوف والظنون التي في نفس كلّ منهما تجاه الآخر، ومحاولة التخوين والتشكيك الناتجة من عدم الفهم بينهما.
كوستا والإخوان
في حوار صحفي؛ حاول زعيم الحركة، محمد طلبة، أن ينفي أية صلة بينه وبين جماعة الإخوان، بل وهاجمهم كلّما حانت له فرصة في ذلك، لكنّه كان يحنّ ويميل إلى من يقتربون من الاتجاه السلفي، فقال إنّ الخوف من أنصار "أبو إسماعيل" غير مبرَّر، و"حازمون" لا يشكّلون أيّ تهديد؛ لأنّهم يفتقدون القاعدة الجماهيرية وغير محددين، والتيار نفسه يتفتت".
وأضاف: "لو ضرب الجيش تظاهرات 30 يونيو بالقنابل، لكانت جماعة الإخوان ستهلل وتفرح؛ لأنّ هذا يساند شرعيتها، لكن أعتقد أنّ السيسي تصرّف من باب المسؤولية السياسية والشعبية التي تعود لعلاقة وطيدة بين الجيش والشارع المصري، وأنّ الفشل الذي قامت به جماعة الإخوان كان يفوق كلّ التوقعات السياسية والشعبية، لقد طفح كيل الشعب من تلك الممارسات التي لم تحقق أدنى طموحاته، بل اقتصت من حقوقه المشروعة" .
كانت لزعيم الحركة مواقف انتقد فيها الدعوات المتكررة لهدم الآثار المصرية، كما انتقد أيضاً الرئيس الإخواني، محمد مرسي، وقال: "لم يحقّق ما وعد به كلّ التيارات التي انتخبته، سواء كانوا سلفيين أو ليبراليين، أو حتى يساريين، ومرسي، وعد جموع السلفيين بفرض الشريعة فأعطوه أصواتهم، كما وعد الليبراليين بحرية التعبير وسيادة القانون، فأعطوه أصواتهم، ووعد اليساريين بالعدالة الاجتماعية وحقوق العمال، فأعطوه أصواتهم، وفي النهاية هو لم يحقق أيّ شيء مما وعد به"، وقال موجهاً حديثه لمرسي: "فلا شريعة طبقت، ولا حرية منحت، ولا حقوق أعطيت، ثم إذا بهم يعترضون عليك".
الاختفاء قدر طبيعي
إنّ الصراع والجدال الشديد مع جملة من الإشكاليات الفكرية والمنهجية خرج السلفيون بأكثر من تنظير فكري، وما بين الحرمة والحلّ كان هناك بون شاسع، وكانت هناك ملفات داخلية كثيرة، أصبحت محلّ نقاش وجدل كبيرَين، بعد الانتقال إلى العمل السياسي الذي فرض هيكلة جديدة، وعلاقات بين المستويات السلفية المختلفة، وفرض تحديات لتطوير الخطاب الفكري والأيديولوجي، وعكس ذلك عدم توافق الرؤية بين الجناح الذي قرر ممارسة سلفية سياسية، وبين مشايخ السلفيين الكبار في الحركة، وبين شباب يريدون دمج المعاصرة مع الأصولية، وكان هذا من الصعوبة بمكان؛ إذ كيف تدمج بين نقيضين، ومن هنا اختفت (كوستا).

الباحث هشام النجار: "كوستا" تمظهر وتعبير عن مزاوجة بين المظهر الديني والحداثة؛ بمعنى إنتاج شباب متدين عصري

يرى الباحث في الشأن السلفي، علي عبدالعال، في حديث خاص؛ أنّ "كوستا" مجموعة ذات ميول ثورية، خرجت من رحم التيار السلفي، في ظلّ أحداث الـ ٢٥ من يناير، بمعنى أنّها ظهرت في ظلّ حدث ثوري ساهم بشكل كبير في ظهورها. واختفاؤها يعود في المقام الأول إلى غياب واختفاء عوامل وجودها المتمثلة في الزخم الثوري، الذي كان عاملاً في انخراط السلفيين في فعاليات الثورة.
الباحث في شؤون الإسلام السياسي، هشام النجار، يوافقه القول ويقول في تصريح خاص: إنّ "كوستا" تبدو كما لو كانت ظاهرة وقتية ارتبطت بحالة ثورية أفرزت العديد من الظواهر والكيانات الجديدة والمتطورة، وهي كانت ظاهرة جديدة بشكل لافت ومدهش على الحالة العربية عموماً، لا المصرية فقط، إلى حدّ أنّ الواقع بمستجداته السياسية وتطور الأحداث لم يحتملها، وصولاً إلى انطفائها.
يوضح النجار أنّ "كوستا" تمظهر وتعبير عن مزاوجة بين المظهر الديني والحداثة؛ بمعنى إنتاج شباب متدين عصري، وهذا ما يعكسه المصطلح الذي يزاوج بين السلفية، ومجموعة مقاهي "كوستا" الشهيرة بوسط البلد، وهو الأمر الذي لم تحتمله السلفية التقليدية، بفرعيها الحركي بالقاهرة والدعوي بالإسكندرية، وهما الفرعان اللذان اكتسبا نفوذاً كبيراً، مع صعود الإخوان لتلاقي المصالح واعتماد الجماعة على السلفية التقليدية، كشريك في السلطة في مواجهة التيار المدني، ولذلك قام رموز السلفية التقليدية بتكفير سلفيي كوستا، أو على الأقل التصريح، بأنّهم مجموعة مارقة لا تعبّر عن صحيح الدين، كما جاء على لسان المنظر السلفي، محمد عبد المقصود، أحد حلفاء الإخوان؛ لذلك لم يجد "سلفيو كوستا" متنفساً، ولا ترحيباً في ظلّ صراع سياسي احتدم بعد الثورة على السلطة، واستدعى منح نفوذ متعاظم للسلفية التقليدية، بغرض تمكين الإسلاميين من السلطة.
هذه المحاولات السلفية لولا أحداث الثورة المصرية، لما نجحت، وهذه المجموعة لا تختلف كثيراً عن باقي التنظيمات السلفية، فما بين قوسين يمكن أن تُجمع تيارات مختلفة، لكنّها تتشارك في الخطاب والأهداف والقواعد الفكرية، ومحاولة "كوستا" تأتي في سياق ترويج خطاب سلفي، لكن بطريقة عصرية.