نهى الصراف تكتب:
عالم غارق في الرياء
تسنى لي في إحدى المناسبات، وكنت أكتب لمجلة أزياء، حضور عرض للأزياء لمصمم إيطالي ذاع صيته في حينه. كان العرض مبهراً، وأنا أجلس – سهواً- في الصف الأمامي للمسرح وهو المكان المخصص لكبار الزوار وأشدهم بريقاً. بدا الأمر غريباً على ذائقتي ومزاجي القاتم في الكتابة، حيث اعتدت لسنوات الجلوس في المقاعد الخلفية في غرف الأخبار أو التجول بحرية في شوارع الفقراء التي تفيض وجعاً وفاقة.
أفزعتني الأضواء وأبهرتني الألوان التي تتبادل مع خطوات العارضات دورات وانحناءات محسوبة على أرضية مفروشة بسجاد أحمر. كل شيء كان غارقاً في الضوء والرياء، حتى ابتسامتي التي كنت أوزعها بغير انتظام على (المهمين) الجالسين في المقاعد القريبة مني رداً على ابتساماتهم البليدة. هذا هو العرف السائد في عالم الأضواء، وكان عليّ أن أنساق وراء مسؤولية المهمة الصحافية الغريبة حتى اللحظة الأخيرة. لم تهمني كثيراً الأزياء المعروضة، خاصة أن طيات الملابس واتجاهات خطوطها كانت تتوارى مرة خلف الأضواء الباهرة ومرة أخرى خلف ضجيج الموسيقى المرافقة للعرض. لكني انتظرت حتى النهاية، حيث توارت الأضواء وخفتت الموسيقى كي أحظى ببعض الحوارات الحصرية مع النجوم الذين يقبعون عادة خلف الكواليس. هذا ما كنت أدعيه في حينها، لكن الفضول الذي سبقني إلى الكواليس كان من نوع آخر؛ فقد تملكتني رغبة في لمس قماش الفساتين والتعرف إلى التصاميم المبهرة عن قرب، حتى يسهل عليّ وصف التفاصيل الدقيقة والصنعة المتقنة.
دخلت من الباب الخلفي، فوجدت جلبة من بقايا العارضات وقد استبدلن ملابسهن استعداداً لمغادرة مكان عملهن، كما لمحت إحدى العاملات وهي تسحب خزانة حديدية متحركة تم تعليق ملابس العرض عليها وكانت كما أذكر أقل من عشرين قطعة. قطعت خطوات عريضة من دون استئذان وتوجهت فورا إلى حيث الفساتين، ثم لمستها برفق الواحدة تلو الأخرى فلم أجد سوى خرق بالية وألوان باهتة باستدارات وقصات لم يتم إنجازها، أو هكذا خيّل إلي بعد أن صححت لي مساعدة المصمم بأن ترك بعض جوانب القماش على حالها من دون تدخل ماكينة الخياطة هو جزء من التصميم المبتكر، وإن جزءاً كبيراً من الإبهار كان في أصالة التصميم واعتماده على مادة خام رفيعة المنشأ عالية المقام، حتى وإن بدت غير جميلة.
خاب أملي عندما غادرت قاعة عرض الأزياء، وبدلاً من إكمال معلومات خاصة بكتابة مقالي، وجدتني منشغلة بضجيج الأرقام التي كانت تتبادل الأدوار مع أفكاري المشوشة. ترى، هل هو هذا العالم الموازي لعالمنا؟ وكيف يمكن أن تكون مثل هذه العروض المبهرة ذات فائدة وجدوى، ومن سيرتدي هذه الأسمال وهل هم على استعداد لتبديد أموال طائلة لقاء سلع غريبة لا يمكن ارتداؤها حتى في حفلة تنكرية؟ التقيت في مناسبات ومصادفات غير سعيدة ببعض هؤلاء؛ فصيلة بشرية معينة نشأت وتمرنت نفسياً على استهلاك محتويات هذا العالم المزيف؛ أضواء مبهرة، أسماء مشهورة، علامات جودة، ألوان باذخة، وغيرها الكثير. عالم غريب يعيش داخل نفسه ويتغذى من جلود مريديه، كما تتغذى الفطريات بتطفلها على بعض الكائنات الحية حين تجد بيئة مناسبة لذلك.
بعض الناس، يشبه كثيراً هذه الأسمال البالية؛ حين تخدمه المصادفة ويضعه صناع الوهم على مسرح الحياة، محاطاً بالأضواء والضجيج متضخماً بأناه ناسياً أنه لا يمتلك من نفسه سوى هذه الخرقة التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى قطعة فنية بفعل الأضواء والموسيقى، وسيأتي اليوم الذي تتوارى فيه الأضواء وتنطفئ الموسيقى، فلا يبقى سوى الأصل الباهت الرث الذي لا يساوي ثمن الكيس الذي يوضع فيه!