محمد أبوالفضل يكتب:
المتاجرة السياسية بمعبر رفح بين مصر وفلسطين
النغمة التي تعزفها بعض القطاعات الفلسطينية في غزة ضد مصر حاليا، تتعمد تحميلها مسؤولية غلق معبر رفح لفترات طويلة، وتصر على تجاهل الفاعلين الحقيقيين للانسداد السياسي الراهن، والذي أدى إلى حذر القاهرة الشديد في التعامل مع فتح المعبر على الدوام.
القصة تجددت الأيام الماضية، بعد انسحاب السلطة الفلسطينية من على المعبر، وعودة شرطة حركة حماس للتحكم في مفاصله، ولم ينتبه هؤلاء، ومن يحرضونهم، إلى أن مشكلة معبر رفح جزء من الأزمة الفلسطينية العامة، وفتحه أو غلقه يخضع لحسابات أمنية لا تخلو من تقديرات سياسية تتعلق بالحفاظ على الشرعية التي تمنح القضية الفلسطينية زخما إقليميا ودوليا، يتجاوز المناوشات الحاصلة بين الفصائل والحركات المختلفة.
الطريقة التي تعاملت بها بعض الدوائر الفلسطينية في غزة، تؤكد أن هناك إصرارا على لصق الأزمة بالقاهرة، وتكرار الخطاب السابق، الذي روجت له كل من قطر وتركيا عبر أدواتهما الإعلامية، يشير إلى أن مصر “تفرض حصارا على غزة”، في تجاهل فاضح لدور إسرائيل في خنق القطاع، ورفع العتب عن حركة حماس التي أدت خلافاتها مع حركة فتح إلى هذا المأزق.
الملاحظ أن العودة لهذا الخطاب، تتزامن مع تأجيل دخول الدفعة الثالثة من الأموال القطرية إلى القطاع، وبدأت منذ ثلاثة أشهر بدفع رواتب موظفي حماس المحجوبة من قبل السلطة الفلسطينية، وبدلا من مواجهة إسرائيل والمجتمع الدولي المتقاعس عن مساعدة أهالي غزة، تتجه أصابع الاتهام لمصر، لأن اتهام مصر يحقق للدوحة فوائد سياسية عدة، أبرزها محاولة ردعها لتتصرف الأخيرة في غزة بحرية، والضغط على القاهرة بسلاح تأليب المواطنين، وتوجيه غضبهم إليها بدلا من أي جهة أخرى.
العناوين الصحيحة لأصل أزمة الحصار واضحة للجميع، وهي: إسرائيل التي تسد جميع المعابر الرابطة بين الضفة الغربية والقطاع، وتتعمد خنق غزة اقتصاديا منذ حوالي 11 عاما، ومع ذلك صمت البعض وتبنوا مشروع الترويج لدعاية سياسية سلبية للنيل من مصر، بذريعة غلق معبر رفح وفرض حصار على الفلسطينيين في غزة.
المثير أن هؤلاء تجاهلوا مئات الأنفاق بين القطاع وشمال سيناء، والتي كانت الحكومة المصرية تعلم بها في بدايات الأزمة، لكنها غضت النظر عنها كنوع من المساهمة غير المباشرة في تخفيف الحصار الإسرائيلي، وتعويض غلق المعبر شبه المستمر، لأسباب تتعلق بالحفاظ على شرعية السلطة الفلسطينية، التي انسحبت من القطاع، بعد قيام حماس بانقلابها عام 2007 وإحكام سيطرتها على غزة.
تحول الموقف المصري من الأنفاق والتعامل مع أصحابها بصرامة جاء عقب استخدامها كمعبر لتهريب الأسلحة والمتشددين، وتواري دورها في تسريب المواد الغذائية والوقود، ما جعل الحكومة تتعامل معها بصرامة وتشرع في هدمها، وتتخذ إجراءات أمنية حاسمة على الحدود مع رفح الفلسطينية.
التصورات الجديدة شملت تعاونا أمنيا مع حركة حماس وأثمرت نتائج إيجابية للأمن في منطقة سيناء، وبعد سد غالبية المنافذ والثغرات القادمة من غزة وغيرها، نجحت أجهزة الأمن المصرية في الحد من العمليات الإرهابية، والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها، خلال العام المنصرم، ما يؤكد أن التشدد على معبر رفح له دوافعه الأمنية، بجانب المبررات السياسية الخاصة بوجود السلطة الوطنية هناك، لضمان الحفاظ على اللُحمة الفلسطينية.
انسحاب عناصر السلطة من المعبر مؤخرا، جزء من لعبة عض الأصابع بين حركتي فتح وحماس، ويضاعف من التحديات المتناثرة في طريق المصالحة الفلسطينية، والتي يجب الالتفات إليها لتجاوز مطباتها والتعامل معها بحسبانها عقبة كأداء يستلزم تخطيها تكاتف الجهود العربية والوطنية.
المتاجرة السياسية بورقة معبر رفح تساهم في تكثيف الضجيج السلبي على القضية الأم، بما يمكّنُ إسرائيل من جني مكاسب مختلفة، وكما هو ظاهر يبعد الأنظار عنها كجهة أساسية مسؤولة عن التطويق الذي يلف قطاع غزة، برا وبحرا وجوا. المهم أيضا أنها تحاول إيجاد فتنة جديدة بين مصر والشعب الفلسطيني في غزة، وتخرب جهود المصالحة التي تبذلها من أجل تطويق الخلاف بين فتح وحماس، بما يشكك في نزاهتها لاحقا، بصورة تفتح الباب لتسرب جهات أخرى، بينها قطر، تريد الدخول من باب المساعدات المادية، وملف تبادل الأسرى.
تدفق الأموال من قبل الدوحة بدأ يتعثر على عتبة تراشقات بين قيادات إسرائيلية، اعتبرتها رشوة قطرية مقننة للبحث عن دور سياسي، جزء منها يذهب لتمويل جماعات متطرفة، ملتحفا بغطاء إنساني على شكل مساعدات لموظفين تابعين لحماس، ولذلك يجري التمهيد لفتح قضية الأسرى، التي تعتبرها الدوحة أثيرة لها وتمتلك خبرة فيها.
التشويش السياسي على دور القاهرة من نافذة رفح، يرمي إلى الضغط عليها لفتح المعبر لفترات طويلة، والتسليم بالأمر الواقع المرتبك وبقبضة حماس، وتخفيف الميل للتمسك بشرعية السلطة الفلسطينية، وربما التمهيد للتخلي عن ورقة المصالحة، ولأن الصمت السياسي يمكن أن يؤدي إلى استئناف التصعيد العسكري بين حماس وإسرائيل، فقد يصبح ملف الأسرى والشد والجذب حوله محور العملية السياسية المقبلة لملء الفراغ، حيث تجتهد قطر لترمي بثقلها خلفها، أملا في سحب البساط من مصر.
السيناريو السابق ينطوي على وجاهة سياسية لدى أصحابه، لكنه يتغافل عن مجموعة من المعطيات، أهمها البعد التاريخي في علاقة القاهرة بالقضية الفلسطينية، من باب المضامين العروبية ومقتضيات الأمن القومي، وهي مسألة تحتل أولوية في العقل الرسمي والشعبي، ومن الصعوبة التفريط فيها لأي جهة.
المحاولات القطرية، فضلا عن التركية والإيرانية، للقفز على هذه القضية لم تنقطع، وفي كل مرة يعجز هؤلاء عن السيطرة على مفاتيحها أو تنحية القاهرة عنها، لأن هناك ثوابت تتحكم في العلاقات بين مصر والشعب الفلسطيني، تجعل الكثير من الأمور تستعيد سريعا عافيتها حتى لو تطلب ذلك تقديم تنازلات لحماية الأمن القومي للبلاد، والدليل على ذلك التعامل الرسمي مع حماس وتجاوز الاتهامات القضائية بشأن محاولاتها السابقة العبث بالأمن المصري.
الشعارات المحدودة التي رُفعت في غزة ضد مصر مؤخرا، والنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي لإحداث قطيعة مع القاهرة بحجة غلق معبر رفح، تمت تجربتها في فترات أشد صعوبة وفشلت في خلق الشرخ المنتظر، ولدى القاهرة أدوات حقيقية لخنق القطاع لو أرادت لكنها لن تقدم على خطوة كبيرة كهذه، ولن تنجر وراء الاستفزازات المتعاقبة، لأن القطاع على وشك الانفجار، ولا تريد أن يحدث ذلك في وجهها، مع توالي التخلي عن جزء معتبر من المساعدات الدولية للفلسطينيين عموما.
الحيل والألاعيب السياسية لم تتوقف، وحجج معبر رفح لن تدفع الحكومة المصرية لتغيير موقفها وتقديم تنازلات تضر بالأمن، فما بالنا بعد اتخاذ جملة من الإجراءات الصارمة على الحدود مع غزة، فقد اختلف المشهد عما كان عليه منذ بضعة سنوات، ولذلك فإن المتاجرة بالمعبر هذه المرة لن تكون أفضل من سابقاتها.