سعد القرش يكتب:
الانتقام ليس عدالة في بلد يعدم الإرهابي ويكرم الإرهاب
حمَلة العقيدة يرون الموت أسمى أمانيهم، ولا يخيفهم الإعدام ولا يرهب شيعتهم؛ فهو ممر وحيد يدخله القاتل، ويخرج منه أسطورة تضيف إليها الأجيال أساطير تغذي رغبتهم في الانتقام.
وعى أسامة بن لادن هذا الأمر، وكان يدعو الله “أن يصبح دمي نبراسا يوقظ حماس أتباعي وتصميمهم”، على خطى سيد قطب الذي بشّر تلاميذه بأن “الطريق مفروشة بالأشلاء والجماجم، مزينة بالدماء”، ولما صار الإخوان مدللين يتباهون بجرائم تقربوا بها إلى الله، اعترف تلاميذ سيد قطب بأنه خطط لاغتيال جمال عبدالناصر وتفجير البلاد في قضية عام 1965. وكان يتعجل نهايته، ويتوقع أن يكون إزهاق روحه لعنة على عبدالناصر وبعثا لأسطورة لا تكتمل إلا بالدم.
قبل خمسين عاما، أدّت عشوائية الاعتقالات إلى استنبات الكراهية في قلوب أبرياء أُخذوا بالخطأ مع عتاة المجرمين. وفي المعتقل يتمكن أرباب الإرهاب من غزو قلوب الشبان، فيخرجون ليقتلوا، وقد دافع مصطفى مشهور وعمر التلمساني عن قتلة وزير الأوقاف السابق الشيخ محمد حسين الذهبي عام 1977.
ويعيد نظام عبدالفتاح السيسي الخطأ نفسه، فأي اشتباه للبراءة يصبّ في صالح متهمين يكتسبون تعاطفا، ويشمل هذا التعاطف قتلة يفخرون باقتراف الدم. ولكل بريء يحاكم الآن عائلة ترث الحزن والرغبة في الانتقام المضاد، ردا على العدالة لو جاءت بمعنى الانتقام والتشفي. والمنقذ من هذا الضلال هو الحكم بالقانون، وتحرّي الدقة وما يرتبط بها من إجراءات تحول دون الإفراط في أحكام الإعدام الذي أتمنى إلغاءه؛ فأي شيء يمكن فعله أو قوله إذا ثبتت براءة محكوم بالإعدام؟
وليس أخطر من عدم الاطمئنان إلى نزاهة العدالة، والاستهانة بالأحكام القضائية، فنكون أمام أمرين: قاضي إعدام يعتقد أن حكمه هو العدل، وإرهابي غير مبال؛ لأنه يظن نفسه منفذا لما يؤمن بأنه شريعة الله وعدله. وأمامي عدة شواهد:
في يوليو 2013، اعترض محمود رمضان على عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي بطريقة انتقامية، فقتل أطفالا بإلقائهم من سطح بناية في الإسكندرية. جريمة مصورة لم يخف فيها القاتل وجهه، ومشى واثقا بنصرته لدينه، وهو يرفع علم القاعدة الأسود “لا إله إلا الله. محمد رسول الله”. وفي نهاية فبراير 2015 نفذ فيه حكم الإعدام، فرفع إعلام اليمين الديني لافتة “إعدام محمود.. إعدام وطن”، ولم يضع أحدهم نفسه مكان أهالي الأطفال الذين قتلهم. ولكن آلة الدعاية الإخوانية تصنع الأساطير.
في عام 2016 تلا داعشي بيان تنفيذ ما يظنه قصاصا في المتصوف السيناوي سليمان أبوحراز (98 عاما)، وبعد التكبير حمد “الله الذي أرسل محمدا بالسيف رحمة للعالمين”. وصور تنظيم بيت المقدس في سيناء جريمة ذبح الشيخ بالسيف. وفي اختيار السيف آلة للقصاص إتباع للسنة يبث الرعب في قلوب الأعداء.
وبعد إعدام تسعة شبان متهمين باغتيال النائب العام هشام بركات أظهر والد أحدهم ثباتا واطمئنانا. في يونيو 2015 اغتيل المستشار في تفجير مروّع لسيارة ملغومة، وارتبكت البيانات الرسمية، وتضمن أحدها تصفية لمتهمين قيل إنهم منفذو جريمة الاغتيال.
وفي عام 2017 صدر حكم بإعدام 28 متهما باغتيال الرجل، منهم تسعة أعدموا يوم الأربعاء 20 فبراير 2019. وفي اتصال بفضائية إخوانية لم يعتذر عبدالمجيد والد الشاب أبوبكر أحد الذين نفذ فيه حكم الإعدام، ولم يحاول نفي تهمة القتل عن ابنه قائلا إنه “ارتقى شهيدا.. وحصل على مراده وهو الشهادة في سبيل الله عز وجل، وكلنا يبغي ذلك”. وقرأ الأب بلغة عربية فصحى وصية ابنه المستعد لقتال “أهل الصليب” واليهود، وبدا الابن كأنه عمار بن ياسر يواجه كفار قريش صارخا في شعاب مكة “مضيتُ لأرض الجهاد.. وديني دعاني لأحمي العباد… وهذا طريقي قرآن وسيف”. وسوف تنشطر الأساطير التسع، وتنفجر شظايا قاتلة بعدد ذويهم من ورثة الدم.
لستُ قاضيا ليتأكد لي أن هؤلاء التسعة هم القتلة، أو أنهم أبرياء. وأؤمن بضرورة تحقيق العدالة بعد استيفاء اشتراطات قانونية صارمة كالاعتراف من غير إكراه وتعذيب بدني أو نفسي. والعدالة تكفل تبرئة البريء وعقاب المجرم. ولو أفلت المجرم من العقوبة فهذا عجز لعدالة مقيدة بإجراءات قانونية. السؤال الآن: في ظل احتقان شعبي، وتفجيرات وهجمات إرهابية تُوقعُ العشرات من الضحايا في المدن وعلى الحدود، وحرب نفسية وإعلامية تموّلها دول وتنظيمات عابرة للقارات.. كيف نضمن ألا يُهدر مبدأ العدالة؟
تنال الأحكام القضائية من الإرهابيين، ولكنها ربما تنعش الإرهاب، والمتأمل لمصر الرسمية لن يجدها مشغولة بمحاربة الإرهاب. وأمامي نماذج لشيوخ مهمتهم الوعظ وليس دعوة المسلمين إلى الإسلام، وقد وصف أحدهم نفسه بأنه داعية وهو محمد الغزالي مؤلف كتاب “هموم داعية”، وصنع التلفزيون الحكومي من محمد متولي الشعراوي أسطورة، ومنحه لقب “إمام الدعاة”، ويخلو تراث كلا الرجلين من اجتهاد فقهي، ولهما موقف من غير المسلمين الذين يرونهم أهل ذمة، وللشعراوي فتوى صريحة بتحريم الفنون الجميلة، باستثناء الشعر ما لم يكن لخدمة الدين والوطن، ويحرم العمل بالتمثيل والموسيقى التي يسمى معازف الشيطان، ويدعو إلى استتابة تارك الصلاة قبل قتله، تطبيقا لميراث فقهي يقرن ترك الصلاة بالردّة والخروج على الدولة، وهذا مسجل في الدستور الفقهي المسمى “فقه السنة” للسيد سابق الذي نص على أن المرتد “مستحق للقتل”، وإلى هذا يدعو أيضا أحمد كريمة كما سمعته يوما في ندوة عامة بمعرض القاهرة للكتاب.
وعلى هذا الدرب من فكر إرهابي يصادر الحريات يمضي وعاظ صغار السن، يجيدون فنون الابتسام، ويتمتعون بلقب “الداعية الوسطي” ومنهم الحبيب علي الجفري الذي يلوك فكر الاستتابة.
وهكذا يمضي المشهد في خطين متوازيين، أحدهما يحتفي بأصحاب أفكار، والثاني يتخلص من ثمارها. ولكن الجذر الفكري يظل ضاربا في العمق، ويدفع بالمزيد من ثمار تنفجر في وجوهنا. فهل نحن جادّون في مواجهة الإرهاب كفكرة في القلوب قبل أن يكون رصاصة؟