محمد أبوالفضل يكتب:

النظام السوداني فعل كل شيء إلا الاستجابة للمتظاهرين

قام الرئيس السوداني عمر حسن البشير بفعل كل شيء وأي شيء ليبقى في السلطة، إلا أن يستجيب لنداء المتظاهرين، لكن يبدو أنه سيكون مضطرا في النهاية للرضوخ لهم، فالخطوات التي أقدم عليها بدت للكثيرين بمثابة مسكنات سياسية للأزمة.

آخر هذه الخطوات كانت، الجمعة، حيث قام عمر البشير بتفويض سلطاته واختصاصاته كرئيس لحزب المؤتمر الوطني لنائبه الجديد أحمد هارون ليعمل على تسيير مهام الحزب، بذريعة أنه بحاجة للتفرغ لإدارة شؤون البلاد، وهو اعتراف بالفشل.

عندما خرجت التظاهرات في مدينة عطبرة وانتقلت منها إلى مدن كثيرة في السودان، كان هدفها تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. وعندما صمّم النظام السوداني على عدم الإصغاء لمطالب المحتجين، بدأت التظاهرات تتسع، ودخلت عليها قوى حزبية ومهنية مختلفة، وانتقلت من نطاق غلبت عليه العفوية إلى مربع تقدمت فيه الدوافع السياسية، وظهرت معه القواعد التنظيمية.

كلما ازدادت حدة التظاهرات، تمسك عمر البشير بالرغبة في تقويضها. وبعد أن أحكم سيطرته على مؤسسات الدولة، إداريا وحزبيا، ضاعف من التوجهات الأمنية. وقام بتعيين وزير الدفاع الفريق أول ركن عوض محمد بن عوف، نائبا أول له، وعيّن 18 شخصا من كبار القيادات العسكرية والشرطية حكاما للولايات الـ18 في السودان، فضلا عن تعيين محمد طاهر أيلا رئيسا جديدا للحكومة.

أدى لجوء الرئيس السوداني لحماية حكمه بطبقة واضحة من العسكريين، إلى تزايد الانتقادات الداخلية، لأن الخطوة اعتبرت إشارة على تعامله مع المحتجين بقبضة حديدية، وعدم الرغبة في اللجوء إلى المرونة أو تقديم تنازلات تتعلق بالانتقال السلمي للسلطة، والفشل في إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية.

المنحى الأمني الواسع الذي سلكه البشير، دفع بعض الدول الغربية للتخلي عن صمتها في التعامل مع ما يجري في السودان. وجاء موقف الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والنرويج، الثلاثاء الماضي، حاسما في شأن انتقاد التوجه نحو عسكرة الحكم، وهو ما أغضب مسؤولين في الخرطوم، لكنهم وجدوا فيه ملاذا لحرف الأزمة عن مسارها الداخلي، ومحاولة إدخالها مسارا يمنح الحكومة فرصة للحركة السياسية، بعدما أخفقت في البحث عن حلول واقعية للأزمة الاقتصادية.

أكدت التطورات التي تمر بها البلاد، على مستوى المتظاهرين وتصورات الحكومة، أن الحلول المباشرة صعبة للطرفين. ولجأ كل طرف إلى استخدام أدوات مختلفة للضغط وجر الآخر إلى الهدف الذي يريده دون صدام واسع.

يعلم المحتجون أن التصعيد باتجاه العنف بغرض إزاحة الرئيس عمر البشير يؤدي إلى صدام قوي مع أجهزة الأمن، التي باتت منتشرة في الشوارع، عقب صدور قانون بفرض حالة الطوارئ، ولها الكلمة الأولى في السودان. ويفتح التصعيد الباب أمام خيارات تفضي إلى تقسيم أقاليم البلاد المترامية، في ظل مشكلات سياسية وأمنية واجتماعية حادة منتشرة في الشرق والغرب والشمال والجنوب.

تدرك الحكومة أن الإفراط في العنف يؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا. ويفتح المجال لانتقادات خارجية كثيرة. ويحثّ الدول التي حاولت تجنب توجيه انتقادات للخرطوم على الخروج عن صمتها. ويشجع منظمات حقوق الإنسان على توظيف الضحايا لممارسة ضغوط على النظام السوداني، لذلك لجأ البشير إلى التلويح بالأدوات الخشنة دون اللجوء إليها سوى في الحد الأدنى، منعا لانفلات الاحتقان وصعوبة السيطرة عليه.

اختار الرئيس السوداني الحل الأمني للتعامل مع الأزمة، باعتباره الحل الوحيد الذي يملكه في الوقت الراهن، ما يعني أنه أراد الالتفاف حول الأزمة في شقها الاقتصادي، لأن الوعود المادية التي تلقاها من دول صديقة لم يتم الوفاء بها. ولم يتسلم أموالا كافية لتخفيف حدة الأزمة. ووقفت العقوبات المفروضة على الخرطوم حائلا أمام الحصول على مساعدات اقتصادية، أو كانت حجة للامتناع عن إنقاذ النظام السوداني.

لم يتقدم البشير خطوة ملموسة لوقف السبب الحقيقي للتظاهرات، ليس لأنه غير راغب في ذلك، بل لأن الحكومة لا تمتلك مؤهلات كافية لمعالجة أزمة متراكمة. ولا تسمح الموارد الحالية في الدولة بسد العجز. وفشلت الوعود التي كشف عنها البشير مع بداية الأزمة في إبعاد المتظاهرين عن الشوارع، لأنه كرر خطابا إيجابيا لم يوف به على مدار سنوات حكمه الثلاثين.

تعقّدت ملامح الأزمة لدى المتظاهرين والحكومة، ولم تفلح الوسائل التي استخدمها كل فريق في تخفيف قبضة الآخر في المجال الحيوي الذي يتحرك فيه، وأصبحت المعادلة صفرية، بمعنى أن فريقا سيخسر والآخر سيربح، لأن الأزمة وصلت إلى درجة يصعب معها التفاهم بين الجانبين على وسيلة للخروج الآمن.

المحتجون عازمون على إبعاد البشير عن السلطة، واختاروا شعارا “يسقط بس” كعلامة على التمسك بوحدة ما تبقى من السودان، بعد انفصال الجنوب، وقطع الطريق على من روجوا لسيناريوهات قريبة مما حدث في سوريا وليبيا واليمن، لحث المواطنين على عدم التصعيد.

المحتجون وجدوا النظام السوداني يعاني مشكلات كبيرة في داخله، على مستوى حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والحركة الإسلامية التي تمثل رافدا شعبيا له، والتوتر المكتوم في صفوف بعض الأجهزة الأمنية، وكلها علامات دفعت المتظاهرين نحو الإسراف في الضغط على النظام الحاكم، وانضمت إليهم قوى من المعارضة، وتنظيمات مهنية حيوية، والهدف رحيل البشير.

ارتفاع سقف التطلعات عند المحتجين كان من المفترض أن يؤدي إلى انحناء البشير للعاصفة التي تتزايد في الشوارع مع كل خطوة يقدم عليها لتعزيز نفوذه عبر الآلة العسكرية، أو القيام بإجراءات تضاعف من قبضته الأمنية، وهي رسالة تؤكد عدم الاهتمام بما يقوم به لتثبيت أركان حكمه.

اتخذ الرئيس السوداني مجموعة من الإجراءات التي تجعل من عملية عزله عن السلطة بعيدة أو صعبة، ولم يلتفت منذ البداية إلى السبب الذي يمكنه من ذلك، وهو الاستجابة لمطالب المتظاهرين على مستوى الأزمة الاقتصادية، لأنه يفتقر لأدوات العلاج، وهو ما جعلهم يجدون الوقت مناسبا لإنهاء حكم الحركة الإسلامية من خلال انتفاضة شعبية.

تعلّم البشير من دروس انتفاضتي السودان، عامي 1965 و1984، وثورات الربيع العربي في بعض الدول المحيطة، ووجد في المؤسسة العسكرية ضامنا لحكمه، أو على الأقل مؤتمنة على حياته إذا اضطر للرحيل عن السلطة، منسجما مع موجة عربية تعظّم دور الجيش في الحياة المدنية.

تبدو حالة التظاهرات في السودان مختلفة عن غيرها، وهو ما ضاعف من صعوبة تحقيق أغراض المحتجين والحكومة، ومتوقع أن تستمر الأزمة بعض الوقت، لأن توازن القوى على الأرض يكاد يكون متكافئا، فالمتظاهرون يعتمدون على كثافتهم، والحكومة معها الآلة الأمنية، ولا يستطيع كل فريق التمادي في خياره، لأن الوصول إلى لحظة الصدام المباشر سيكون مكلفا للجميع.

يرتاح النظام والمعارضة إلى حالة اللاسلم واللاحرب، ويجدان فيها مخرجا مناسبا للورطة التي دخلتها البلاد، بعد تراكم أسباب كثيرة أكدت أن المواجهة المفتوحة بين الحكومة والمعارضة نتيجتها لن تكون محسومة لأي طرف. وينتظر المراقبون اللجوء إلى تغيير البشير واختيار شخصية عسكرية توافقية قادرة على امتصاص الغضب السياسي والاقتصادي والاجتماعي أو الطوفان.