محمد أبوالفضل يكتب:

تعثر الموجة الثانية للمظاهرات العربية

عندما اندلعت احتجاجات في السودان ثم الجزائر، تصور التيار الإسلامي أنه سيعيد تكرار تصرفاته في الموجة الأولى من المظاهرات التي أطلق عليها انتفاضات أو ثورات أو مؤامرات، وشهدتها دول تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، ويقفز ليتصدر المشهد العام، ويجني العديد من الثمار السياسية.

بعد مضي أسابيع عدة لم تتحقق أغراض هذا التيار، بل تعرض إلى انتقادات عارمة وشكوك واسعة، ويكاد يخسر ما حصده من مكاسب كبيرة على مدار السنوات الماضية في كل من السودان والجزائر. ولم تنطفئ شعلة المظاهرات في البلدين حتى الآن، غير أن النظام الحاكم في كليهما اضطر للتجاوب مع جزء من المطالب السياسية للمحتجين المدنيين.

معركة كسر العظم بين الحكومة والمعارضة لم تنته، وقد يكون أمامها المزيد من الوقت، لأن كل طرف يقبض على مجموعة من الأوراق تجعله قادرا على التأثير في التطورات بما يطيل عمر الأزمة، أو يضاعف من عملية السيطرة عليها لصالح جهة بعينها، والتي أصبح من الصعوبة حسمها بالضربة القاضية، لأنها مباراة تعتمد على تسجيل النقاط، مع وجود حلقات مختلفة لا تزال مجهولة.

المعروف في الأزمتين أن معظم الدوائر السياسية في الحكومة والمعارضة، لم تعد تثق تماما في التيار الإسلامي، ولا تفرق بين متشدديه ومعتدليه، وباتت تقلق من مشاركته في الاحتجاجات الشعبية، خوفا من صرفها عن مساراتها المباشرة، ولأنها تعلم قدرته التنظيمية الجيدة، وحضوره المؤثر في المجتمع، لذلك لم تعد عناصر هذا التيار حاسمة في توجيه المظاهرات ودحرجة أجندتهم السرية، كما كانت في الموجة الأولى، ولم تستطع اختراق القوى المدنية بالتحايل والمراوغة والإيحاء بتبني مواقف وطنية.

الحكومة في كل من السودان والجزائر، وحسب كثيرون أنها على وئام أو تفاهم مع قياداته، حرصت على اتخاذ مسافة بعيدة عنه، ولجأت إلى تعميق الثقة في المؤسسة العسكرية للبحث عن مخرج سياسي مناسب للأزمة، لن يصب في صالح أي من القوى الإسلامية الطامعة في التكويش على السلطة.

الوصول إلى هذه النقطة كان طبيعيا في الموجة الثانية، عقب ظهور النتائج السلبية التي خلفتها الموجة الأولى، وأدت إلى انتشار صراعات ونزاعات وتوترات عمت بعض الدول العربية، وهو ما خلف قناعات مسكونة بالهواجس لدى شريحة عريضة من المواطنين جراء استمرار المظاهرات، وجعلهم أكثر انضباطا في الشوارع والميادين، ورفضوا التدخلات الخارجية، ورفعوا شعارات وطنية بلا مواربة، خالية من العناوين الفئوية، الأمر الذي قلل من حجم التأثير الملحوظ الذي اعتادته القوى الإسلامية في المظاهرات العربية.

في السودان أو الجزائر، لم يغب عن غالبية المواطنين المصير الذي وصلته الدول التي شهدت احتجاجات عنيفة في الموجة الأولى، ويظل شبح صعود الإسلاميين للحكم على أكتافها ماثلا في الأذهان، ما ساهم في تمكين التيار المدني من الامساك بحركة المظاهرات لحد بعيد، ولم نسمع عن مندسين وسطهم يطلقون شعارات إسلامية فضفاضة، أو يقوم هؤلاء بالحض على التوجيه نحو مسار سياسي معين، أو حتى تنظيم مظاهرات خاصة.

الحرص البالغ من قبل الحكومة السودانية على عدم طرق أبوابهم مباشرة، وعدم الاستعانة بهم كرديف تاريخي مؤيد للتحكم في حركة الشارع، حمل رسالة سياسية مهمة لطمأنة القوى المدنية الغفيرة، والقوى الإقليمية القلقة من تصدرهم الواجهة.

وثمة جهات متباينة في الداخل والخارج انزعجت من الميل ناحيتهم، وسلك النظام الحاكم طريقا نحو تقليص دور القيادات المعروفة بإنتماءاتها الإسلامية، وبدت الساحة السودانية خالية من أصواتهم الزاعقة.

النظام الجزائري لم يقل تريثا في هذا المجال، وفاقم من حذره لأنه متهم أصلا بالمساهمة في إضفاء شرعية سياسية على التيار الإسلامي، بعد عشرية الجمر والنار، حيث جعل بعض ألوانه شريكة في الحكومة، من هنا يحاول أن يصبح أكثر انحيازا للتيار المدني، في إشارة يتمنى أن تكون كافية لعدم تكرار تجارب سابقة، جنت فيها العناصر الإسلامية مكاسب ظاهرة.

التعثر الواضح في المسيرات التي سلكتها مظاهرات السودان والجزائر، يشير إلى أن هذا الطريق فقد جزءا من جاذبيته السابقة كخيار وحيد لإسقاط الأنظمة المشبوهة أو الفاسدة. تأكد أن القوى الإسلامية ليست المحرك الرئيسي له، ولم تعد مستفيدة من تداعياته. واستوعبت الحكومات روافد الموجة الأولى، ولم تلجأ إلى الصدام أو عقد صفقات سرية مع دوائر سياسية معارضة.

يبدو أن السماح بصعود القوى الإسلامية وبال عليها، وكشف العديد من الألاعيب التي كانت تنتهجها بسهولة لاختراق عقل وقلب القوى المدنية، وفشلت أدوات اللعب على عواطف المواطنين في الحشد، الذين أصبحوا أشد استنفارا عند طرح أي ملامح للخطاب السياسي الإسلامي.

القيادات المدنية انتبهت لمخاطر الخدع التي وقعت فيها من قبل، وأفضت إلى تشويه صورة الكثير منها، التي ظهرت جنبا إلى جنب مع قيادات إسلامية التحفت رداء معتدلا لتخفي رداء يحمل بصمات قاتمة، ما جعل شخصيات حزبية كثيرة في السودان والجزائر تنأى بنفسها عن التحالف في العلن مع جهات لها مرجعية إسلامية.

المؤشرات السلبية التي حملتها المظاهرات خلال الأسابيع الماضية، قلصت فعالية القوى المؤدلجة. وبدلا من أن تكون تطورات السودان والجزائر تعزز من نفوذها في المنطقة، ربما تمضي في طريق معاكس، وتتراجع هيمنتها في بعض الدول التي انتعشت فيها، واعتقدت أن لديها قدرات فائقة للحفاظ على حظوظها، وبدأ الدعم الذي تتلقاه من دوائر محلية وخارجية يتراجع بشكل أزاح عنها جزءا من بريقها.

قدمت أحداث السودان والجزائر للقوى المدنية فرصة لإعادة التموضع بعيدا عن التيار الإسلامي، وكبلت الحكومتين حيال عدم التعويل عليه فقط، باعتباره يملك تنظيما حديديا يمنح قياداته وكوادره حركة واسعة للسيطرة على بوصلة المظاهرات.

بالتالي سوف تطرأ بعض التغيرات في المستقبل القريب على الصورة الذهنية التي أوجدتها ممارسات سابقة، بما يفضي إلى تحولات في شكل الخريطة السياسية للتيار الإسلامي، الذي بدأ يعاني من فقدان واضح في الجاذبية الشعبية، ومرجح أن تظهر تجلياتها في المآلات النهائية لما يجري في السودان والجزائر.