نهى الصراف يكتب:

هل نحن نسخ مكررة من آبائنا وأمهاتنا.. نرى بعيونهم ونتكلم بألسنتهم

هل نحن نسخ مكررة من أمهاتنا وآبائنا؟ هل نتقدم في السن وما زلنا ننظر إلى العالم من خلال عيونهم، نرى ما كانوا يرونه ونصادق على آرائهم في السياسة والدين؟ هل نتبنى لمساتهم الخاصة في تربيتهم لنا عندما نواجه مشكلة ما مع أبنائنا؟

مثل هذه الأسئلة تقفز فجأة في وجوهنا عندما يواجهنا موقف حياتي ما.. أي موقف كان، فنفاجأ بأننا نتحدث بلسان أمهاتنا ونتخذ الموقف الذي اتخذه آباؤنا في تفاصيل متطابقة إلى حد بعيد، وكأننا مجرد “روبوتات” تنفذ ما يُطلب منها دون أن يحق لها الاعتراض أو حتى محاولة إبداء رأي مخالف. في الحقيقة -وكما كان يرى هذا الموقف فيلسوف ظريف في مناسبة ما- نحن إنما “مدفوعون من الخلف ولسنا مسحوبين من الأمام”! هذه الجملة الفلسفية المعقدة قد تعني أن الماضي مسيطر علينا تماماً وهو الذي يرسم سلوكنا الحاضر بصورة مغايرة تماماً لرغبة المستقبل الذي يحاول أن يسحبنا إليه، من دون فائدة، الماضي في واحدة من زواياه يمثل حياتنا في منزل الطفولة.

في الماضي كان زواج الشباب من شابات يخالفنهم الدين أو القومية، والانحياز إلى حزب سياسي مختلف عن توجهات الأهل أو حتى الانتقال للعيش في رقعة جغرافية بعيدة عن المدينة التي تقطن فيها العائلة، يمكن أن يؤدي إلى انهيار الروابط الأسرية. وكان من المتوقع أن يسلك الأبناء الطريق ذاتها التي سلكها آباؤهم، وأن يتبنوا خياراتهم ويصادقوا على آرائهم في الحياة عموماً، من دون إغفال الدور الذي يلعبه الأقارب والمعارف بل حتى الجيران، في التأثير على القرارات الشخصية وتدوير دفة إبحار الجيل الشاب للوجهة التي يريدونها، تلك التي ساروا عليها هم أنفسهم، يحدث هذا في الوقت الذي يعاني فيه الأبناء صراعاً معقداً بين رغباتهم ورغبات المجموعة، الأعراف، العادات، أحلام الأهل وأمنياتهم.

ترى د. بيفرلي فلكسنغتون -أستاذة في جامعة سوفولك وباحثة وكاتبة أميركية في السلوك الإنساني وإدارة الضغوط النفسية- أن الفرد قد يكون في موقف معين لا يحسد عليه، عندما تكون لأفراد أسرته وجهة نظر ما مهيمنة على آرائه في الوقت الذي يحاول فيه رسم المسار الخاص بحياته. في هذه الحالة، هناك طرق عدة لخلق نوع من التوازن بين الاثنين؛ بين رغباته وخطته الشخصية والحفاظ على علاقاته الأسرية في الوقت ذاته. أهم هذه الطرق هي أن نسمح لأنفسنا بالتقرب إلى أشخاص يختلفون قليلاً أو كثيراً في معتقداتهم وآرائهم عما تعودنا عليه في بيئتنا المنغلقة على نفسها، وقد يكون من الإجحاف بحق الآخرين أن نحكم عليهم بصواب اتجاهاتهم أو خطئها بمجرد التقدير الجزافي، من خلال رؤيتنا المبنية مسبقاً بحكم وجودنا في بيئة أهلنا. وطالما بقي هذا “الآخر” بعيداً عنا، فكيف سنتعرف إليه، وكيف يمكننا أن نجزم بنقاط الاتفاق أو الاختلاف معه؟

الاطلاع على تجارب الآخرين قد يكشف وجود بعض القواسم المشتركة بيننا، لكن لسنا بحاجة إلى تبني أفكارهم كما هي

تقول د. بيفرلي في كتابها “الأسرار الخمسة لفهم سلوك الإنسان.. منهج يومي لتحسين علاقاتك مع الآخرين”: عندما نتعرّف على تجارب الآخرين، ربما نتوصل إلى وجود بعض القواسم المشتركة بيننا أكثر مما كنا نعتقد، بالطبع، لسنا بحاجة إلى تبني أفكار هؤلاء كما هي.. كل ما هنالك أننا بحاجة إلى معرفة المزيد فوجود الاختلاف مع الآخر هو مؤشر جيد على أن عقولنا تعمل بصورة صحيحة لأننا إذا عرفنا وجهات نظر واتجاهات مختلفة، أمكننا الاختيار الحر بعيداً عن القوالب الفكرية الجاهزة.

إضافة إلى ذلك، فإن الثقافة المدعّمة بالاطلاع الواسع والبحث عن مصادر متنوعة من المعرفة، يمكن أن تكون الطريق الأمثل للبحث عما يمكن أن يمثل تصوراتنا وفكرتنا عن هذا العالم، والطريقة التي نختارها بأنفسنا لتناسب هذه الأفكار؛ متابعة الصحف والدوريات، برامج التلفزيون والسينما، الكتب.

باختصار، تؤكد بيفرلي: أن يكون عقلك منفتحاً على الآخر لتلقي كل ما يمكن استيعابه من معلومات، ليس بالضرورة أن يتم تبني اتجاهاته فالخيارات متاحة أمامك، الخيارات التي قد تؤكد ما كنت تؤمن وتصدق به أو تلك التي تنفيه. إنها حالة تشبه كثيرا طريقة تذوقنا القليل من كل طبق مرصوص أمامنا، في مائدة تعج بأنواع الطعام والشراب، نتذوق القليل فقط من كل شيء، ثم نتخذ قرارنا بتناول طبقنا المفضل من دون أن نشعر بالندم أو الانزعاج.

يمكنك القيام بهذه الأشياء وأكثر لاقتفاء أثر الحق، الحق الذي تراه في مسار مغاير تماماً لما تربيت عليه واستمعت له وعشت في كنفه.. ربما يبتعد عن هذا قليلاً أو كثيراً.. وربما يكون العكس صحيحاً، أي أن كل ما تعلمته وعرفته هو نفسه الذي يتلاءم مع مسارك في الحياة، وبأنك ستدرك في نهاية رحلتك إلى المعرفة أنك مطمئن وراض كل الرضا وأنت ترى الدنيا بعين والديك، تفكر بطريقتهما، تتذوق خلاصة تجربتهما وتواجه مشاكلك مع أسرتك وأبنائك بنفس استراتيجياتهما. لا بأس طبعاً في كل هذا، المهم أن طريقة مفاضلتك بين الطريقين لا تنسيك أن تُبْقي على وشائج هذه العلاقة الروحية التي تربطك بوالديك، فمجرد وجودهما في حياتك هو ضمان للأمن والسلام الداخلي.

في كل هذه الحالات ستختار ما يرتاح له ضميرك وما قد يحقق الرضا والسلام النفسي والاكتفاء بروحك والنجاح في حياتك؛ سواء أكان ما تراه صحيحاً أم خطأً، حقاً أم باطلاً، فهناك دائماً مصدر صاف، نقي وحكيم لا ينضب، إنه عقلك وقلبك.. استفتِ قلبك!