محمد أبوالفضل يكتب:
رسائل البشير العشر لمن يتحدون إرادة الشعوب
كشفت التطورات الحاصلة في السودان أن سنوات عمر حسن البشير في الحكم افتقرت للحصافة والرشادة والحكمة اللازمة للتعامل مع بلد يموج بتيارات سياسية وحركات احتجاجية متعددة، وغلّب أهواءه ومصالحه العقائدية على الوطنية، فكان من الطبيعي أن يواجه تحديات عاصفة خلال الأيام الماضية.
بصرف النظر عن المصير الذي ينتظر البشير، فهو يترك الحكم غير مأسوف عليه من دوائر كثيرة، بما فيها جهات حاولت أن تكون قريبة منه وتكيفت مع نظامه ووافقت على قفزاته ورفضت الانسياق وراء الدخول في خصومة حادة، وأرادت تجنب سمومه السياسية والتي يستطيع بثها بتلقائية.
يقدم نموذج البشير مجموعة مهمة من الرسائل المختلفة لكل من يتحدون إرادة الشعوب. ففي لحظة قد تنفلت الأوضاع وتصبح من الصعوبة العودة إلى ما كانت عليه. وهنا يمكن التوقف عند عشر رسائل من أحداث السودان.
الأولى: كل تنازل يعقبه تنازل. وكل تحد سافر يوازيه تحد أشد سفورا. فعندما بدا البشير رافضا التجاوب مع مطالب المواطنين ازداد معارضوه صمودا، ما اضطره إلى تقديم تنازلات تدريجية، بعدها كرت السبحة عقدها حتى انفرطت تماما وأصبحت عصية على لملمة حباتها في الشوارع والميادين.
الثانية: نهاية الهيمنة على السلطة. مهما بلغت قوة الحاكم من الضروري أن يترك متنفسا للشعب، كي لا يضطر إلى اللجوء لخيارات صعبة تضعه على المحك. وقد فعل البشير ما يفعله الكثير من الحكام الذين تتضخم ذواتهم السياسية ويتصورون أن الحياة دونهم هي والفناء سواء.
الثالثة: إقصاء المعارضة وغلبة الصوت الواحد. لم يتوان النظام السوداني طوال العقود الثلاثة الماضية عن تنحية المعارضة والتضييق عليها، بالتخريب والاستقطاب، وذرع الفتن السياسية بتقريب هذا ومعاداة ذاك. وفي كل الأحوال لم تتمكن أحزاب المعارضة من ممارسة دورها جيدا مع انحسار المساحة التي كانت تتحرك فيها، وتنامي قدرة البشير ورفاقه على الثواب والعقاب السياسيين، وحتى البقاء في الخارج وممارسة المعارضة من هناك فقدا جدواهما مع الصفقات السرية التي عقدها البشير مع دول الجوار لوقف لعبة الحرب السياسية والعسكرية بالوكالة الإقليمية.
الرابعة: كثافة المعارك الداخلية وتبديد الثورات الوطنية. لم يشهد بلد مثل السودان كل هذا العدد من الانقسامات، التي قادت إلى معارك في أقاليمه المختلفة. وكلها علامات أكدت الافتقار للحكمة السياسية، لأن النظام لم يفكر في إطفائها، باعتبارها أحد الروافد التي تشغل بال المواطنين وتبعدهم عن التفكير في الضغط لإجراء إصلاحات هيكلية، لكن تراكماتها أرهقت مؤسسات الدولة حتى مزقتها وساعدت على ترهل النظام برمته.
الخامسة: التضحية بجزء من الدولة لم تعصم البشير من الحفاظ على ما تبقى منها. كان النظام السوداني يتصور أن التخلي عن جنوب السودان ومنحه حق تقرير المصير ثم الانفصال، يعني إحكام السيطرة على الأجزاء الباقية من البلاد، والتخلص من أحد المنغصات التي جلبت الحرب الأهلية، وتبين أن الجنوب استقل عن الدولة ولم تتوقف المعارك في غالبية أنحاء السودان، بل بقيت مهددة بشبح تكرار سيناريو الانفصال.
مال البشير إلى الليونة مع جهات خارجية وقفت وراء عملية سلخ الجنوب، وفوجئ أن الضغوط لم تُرفع عن كاهله، بل تعرض لمزيد منها، ولم يلتقط الإشارات التي حملها التعامل معه قبل الانفصال وبعده. في الأولى جرى التعامل معه بصورة وديعة نسبيا، كي يطمئن إلى الخطاب السلمي ويستجيب لمفرداته ومعانيه السياسية. وفي الثانية بدأ يواجه تصعيدا مخيفا، جره إلى المطالبة بمحاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور. وهي تصرفات يعود تاريخها إلى ما قبل انفصال الجنوب، لكن تم الكشف عن تفاصيلها لتظل رقبة البشير تحت المقصلة على الدوام.
السادسة: حماية الفساد. كل الأنظمة التي سقطت عن طريق التظاهرات كانت هذه التهمة حاضرة فيها. وفي السودان تشعبت شبكات المصالح ما جعل رائحتها تزكم الأنوف وطالت شخصيات قريبة من البشير.
لذلك عندما بدأت إرهاصات السقوط اتجهت تحركات الجماهير إلى منازل عدد ممن دارت حولهم شبهات، لأنهم أحد أسباب خراب الاقتصاد، وما جلبه من مشكلات على حياة قطاع كبير من المواطنين الذين وجدوا في الاحتجاجات وسيلة للتعبير عن الغضب.
السابعة: الصمت لا يعني القبول بالأمر الواقع. ظل النظام السوداني يتصور حتى وقت قريب أن طاقة الغضب سوف تظل مكبوتة، ومن الصعوبة أن يضجر المواطنون من وطأة الغلاء وارتفاع الأسعار، ثم فوجئ بانفجار البركان في الشوارع بصورة لم يستطع مجابهتها بالأدوات السياسية والحزبية والحيل الأمنية، فقد سبق السيف العزل، كما يقول المثل العربي الشهير.
الثامنة: صيحات المهمشين أكثر خطورة من النخب السياسية. اعتقد النظام السوداني أنه يمتلك قدرة على تطويق القوى والأحزاب والشخصيات المؤثرة، وتجاهل الحراك الخفي لدى قطاعات أخرى، والذي بلغ مداه في ظل اشتداد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتي لم تترك لهم قدرة على التعايش معها.
التاسعة: الخلط بين الحزبي والأيديولوجي والعسكري. ارتكب النظام السوداني واحدا من الأخطاء التي أضعفت المؤسسة العسكرية في اللحظات العاصفة، ولم يبعدها عن المناوشات السياسية، واستعان بعدد من قياداتها في مهام حزبية ذات ميول عقائدية، ما جعل البشير من دون غطاء قوي يستطيع حمايته، ووضع الشعب في موقف حرج يبحث فيه عن بديل لحماية دولة مزقها الولاء الأيديولوجي للحركة الإسلامية، فالجيش تحيط به اتهامات تقلل من دوره في ترتيب سلس للمرحلة الانتقالية.
العاشرة: توظيف التناقضات الخارجية بطريقة خاطئة. لم يبذل البشير جهدا للاستفادة من إمكانيات السودان، واستغرق وقتا طويلا في اللعب على التناقضات الخارجية. يقترب من هذه الدولة ثم ينقلب عليها، حتى فقد الحد الأدنى من المصداقية، والتي تكشفت تجلياتها مع أزمته الأخيرة، فلم يجد دولة واحدة تعلن وقوفها إلى جواره في محنته السياسية، ولم يتمكن من الحصول على مساعدات مادية تخفف وطأة الأزمة الاقتصادية التي كانت الشرارة لإطلاق تظاهرات واسعة في البلاد.
ذكرتني الحزمة السابقة من الرسائل بمقال كتبته بعنوان “عشرة مشاهد من يوم الغضب” نشر بجريدة الأهرام في 31 يناير 2011 عن ثورة يناير المصرية، وقتها تعرضت إلى عتاب شديد من رئيس تحرير الأهرام آنذاك، لأنه كان يرفض فكرة عزل الرئيس حسني مبارك، لكن هذه المرة لا أعتقد أنني سأواجه العتاب نفسه، لأن رئيس تحرير “العرب” توقع سيناريو سقوط البشير مبكرا.