نهى الصراف تكتب:
لعبة الضوء والنفق
سمحت لنفسي اليوم بارتكاب فعل الابتسام تفاؤلا، وأنا أطالع عنوانا فخما تُستهل كلماته بـ”ضوء.. في نهاية النفق”، فتخيلت للحظات أن صاحب الخبر كان يتحدث عن مشكلة سياسية أو اقتصادية معقدة، وقع التوصل أخيرا إلى فك طلاسمها بعد أن تم التحقق من وجود ضوء أكثر سطوعا في نهاية النفق.
لكني توقفت عن الابتسام، عندما عرفت بأن الخبر يتعلق بزوجين أسكتلنديين كسبا معركة استمرت خمس سنوات، لإجبار جارهما على قطع مجموعة أشجار نمت بشكل مبالغ فيه، على رقعة من أملاكه حتى ارتفع طولها إلى أكثر من 33 قدما كانت مجانبة لسياج منزلهما، فمنعت عنهما الضوء وأغرقت جزءا كبيرا من البيت والحديقة في ظلام طوال السنة، وهو أمر تركهما تحت قسوة مزاج سوداوي وشعور مبهم باليأس.
كان الزوجان قد رفضا أي اقتراح من الجار لإعطائه مهلة إضافية لتشذيب الأشجار أو محاولة تقليص مساحة الظل الذي كان يخيم على جانب كبير من منزلهما، وتعذر صاحب الأشجار بأن إزالتها بالكامل من شأنه أن يؤثر على قيمة عقاره ويسلبه الكثير من خصوصيته، حيث تتخذ الأشجار شكل السياج الذي يحد من انكشاف منزله على الطريق العام الذي يطل على مسلك للسكة الحديد التي تمر من خلالها القطارات في أوقات معينة، مسببة ضوضاء لا تحتمل.
كان قرار المسؤولين في البلدية لمصلحة الزوجين المتضررين، حيث يسمح القانون المتعلق بهذه الإشكالية بتلقي شكاوى من المواطن الذي قد يشعر بأن عدد الأشجار المجانبة لمنزله أو ارتفاعها يتخطى الحدود القانونية المسموح بها، ما يشكل ضررا معنويا وحاجزا للضوء يمنعه من الاستمتاع بحقه في ملكه الخاص بالطريقة التي يراها مناسبة. وتم توقيع الخبر بالعنوان العجيب “أخيرا.. ضوء في نهاية النفق”. النفق طبعا هو العتمة التي عاش فيها الزوجان مضطرين لسنوات، بسبب تعنت جارهما وعدم استعداده للتفاوض.
هذه هي المسألة ببساطة.. ومثل هذين الزوجين، تعيش شعوب كثيرة على هذا الحلم للتخلص من الأشجار الكثيفة التي تخيم على حياتها وتنغص عيشها، أشجار على شكل حكام جاثمين على أرواح الناس مثل الكابوس الذي لا يغادر صحوهم ونومهم بسهولة إلا بضربة حظ أو موت الحاكم بأمر من قضاء وقدر (وهي رواية مشكوك في أمرها).
بعض الشعوب المقهورة تقضي حياتها وهي تتلمس الطريق ببصر ضعيف، علها تلمح ضوءا خافتا في نهاية النفق المظلم فتحدث المعجزة ويأتي الضوء لكن على شكل أسلحة وقنابل وقاذفات ونيران مستعرة، لا علاقة لها بالضوء سوى إنه الفتيلة التي تستخدمها القوات المنقذة كمنصات لإطلاق أسلحة الموت في وجوه السائرين نياما في أروقة النفق المظلم.
وحين يتم المراد، بعد أن يموت نصف المارة ويصاب النصف الآخر بعمى الألوان.. يتحول النفق إلى متاهة وأزقة تتفرع إلى أزقة ومتاهات أخرى بأذرع كثيرة، مظلمة ومخيفة حتى يخيم الصمت، وحين يصحو النائمون لن يجدوا سوى نفق مراوغ مزين بلوحات إعلانية متحركة تتبدل فيها أسماء.. صور وكراسي كثيرة، تتسع لكوابيس جديدة.
ولا من ضوء.. لأن النفق مسدود من الجهة الثانية، ومهما قطعوا الدروب فلن يصلوا!